
قراءة في كتاب “لماذا تفشل الأمم؟” من منظور عربي نقدي
2025-05-27
السودان بين البندقية والمنبر: كيف تشكّلت علاقة الجيش بتيار الإسلام السياسي… وكيف تكسّرت؟
2025-05-30
بقلم: مركز المدى للدراسات الفكرية والاستراتيجية
بين موجة أولى من “الربيع العربي” أسقطت أنظمة، وأخرى ثانية من “التطبيع العربي” تعيد تشكيل التحالفات الإقليمية، يجد تيار الإسلام السياسي نفسه أمام منعطف حرج.
فما بين فقدان حواضنه التقليدية، وتقلص نفوذه الشعبي، وتحول الكثير من الدول العربية نحو شراكات جديدة مع قوى دولية وإقليمية، تتعرض سردية الإسلام السياسي إلى اختبار غير مسبوق: اختبار البقاء دون مشروع، والتحرك في واقع لم يعد يشبه البدايات.
لقد بنت حركات الإسلام السياسي، منذ سبعينيات القرن الماضي، سرديتها الكبرى على ثلاث ركائز: مقاومة الاستبداد، مناهضة التطبيع، والدعوة إلى دولة الشريعة. هذه المرتكزات وفّرت لها التأييد الشعبي، والشرعية الرمزية في وجدان قطاعات واسعة من المجتمعات العربية. لكن مع التحولات الأخيرة، تفككت هذه الركائز أو تغيرت وظيفتها. فالاستبداد لم يعد دائمًا عدوًّا واضحًا بقدر ما بات شريكًا في الحُكم لدى بعض التيارات الإسلامية ذاتها، والتطبيع لم يعد خطًا أحمر عند كثير من النخب في تيار الإسلام السياسي التي تغاضت أو باركت أشكالًا مختلفة منه، بينما لم تعد “دولة الشريعة” مطلبًا عاجلًا لدى جيل جديد يطالب بالحرية والعدالة والكفاءة قبل الشعارات.
إن موجة التطبيع الجديدة – بدءًا من اتفاقات أبراهام، ومرورًا بتقارب عواصم عربية مع إسرائيل، ووصولًا إلى شراكات أمنية واقتصادية علنية – لم تخلق واقعًا جديدًا فحسب، بل كشفت عن واقع كان قائمًا يُدار تحت الطاولة، واليوم خرج إلى العلن، ليُربك كل من بنى خطابه على التناقض الصارخ معه.
تيار الإسلام السياسي بدا مأزومًا أمام هذا التحول. لم يكن موقفه منسجمًا ولا موحدًا. ففي الوقت الذي استمرت بعض فصائله برفع شعارات الرفض، دخلت فصائل أخرى في تفاهمات غير مباشرة مع أطراف مطبّعة، أو اختارت الصمت بدعوى الواقعية السياسية. هذا التذبذب في الموقف لم يُفقده فقط وضوح خطابه، بل جعل شرعيته الأخلاقية موضع مساءلة لدى شرائح شبابية تبحث عن انسجام الخطاب مع الفعل، لا عن مواقف مزدوجة تتلون بحسب المكان والمصلحة.
إن أزمة الإسلام السياسي اليوم ليست فقط في فقدان السلطة أو الضغط الأمني، بل في اهتزاز سرديته التأسيسية. فالجيل الجديد لا يتفاعل مع الشعار ما لم يُدعَم برؤية سياسية واقتصادية واضحة. وحركات الإسلام السياسي، التي طالما اكتفت برفع الراية، مطالبة اليوم بإعادة تعريف دورها: هل هي تيار معارض؟ أم قوة إصلاحية داخل النظام؟ أم مشروع بديل؟ وما حدود علاقتها بالمجتمع والدولة والعالم؟
من جهة أخرى، فإن استمرار عمليات التطبيع من دون رد فعل جماهيري واسع، يطرح أسئلة صعبة حول تغير المزاج الشعبي العربي. فهل تعب الناس من الصراع الطويل؟ أم أن أولوياتهم تغيّرت؟ أم أن فقدان الثقة بنخب – تبار الإسلام السياسي وغيرها – جعلهم لا يرون جدوى في معارضة شكلية لا تغير شيئًا؟ في كل الأحوال، فإن هذا التغير يفرض على تيارات الإسلام السياسي أن تراجع استراتيجياتها، وتعيد تعريف معاركها الحقيقية.
لم يعد ممكنًا بناء الحشد على فكرة “العدو الخارجي” فقط، ما لم تكن هناك أجندة داخلية تعالج مشكلات الناس اليومية: البطالة، الفساد، التعليم، الحقوق، الحريات. ولم يعد ممكنًا المطالبة بشرعية الثورة على الآخرين، دون ثورة داخلية تنظم البنية الفكرية والتنظيمية لحركات الرسلام السياسي نفسها.
إن ما يواجهه الإسلام السياسي اليوم هو لحظة نُضج قسرية. فإما أن يعيد بناء نفسه كحركة سياسية عقلانية ذات مشروع واضح، تحترم التعدد، وتخاطب هموم الناس بلغة الواقع؛ وإما أن يتحول إلى ظاهرة هامشية، تصرخ في الظل بينما تمر التحولات الكبرى دون أن يسمعها أحد.
المعادلة اليوم لم تعد في يد الأنظمة وحدها، بل في يد الشعوب. وهذه الشعوب – رغم كل ما تعرضت له – باتت أكثر وعيًا، وأقل استعدادًا لتكرار تجارب خاسرة. إنها تطلب خطابًا يطابق الفعل، وتحالفات تعكس المبادئ، ومشروعًا وطنيًا يتسع للجميع.
في ضوء هذا كله، فإن مستقبل الإسلام السياسي لا يتوقف على موقفه من التطبيع وحده، بل على قدرته على تقديم رؤية متكاملة: توازن بين المبادئ والمصالح، وتستعيد الثقة لا بالعداء، بل بالبديل.