
الإسلام السياسي في الوطن العربي: من التمكين إلى التراجع – ست تجارب ونهاية واحدة؟
2025-06-08
حين خذلت السياسة الميدان: قراءة سياسية في كتاب «المجاهدون في معارك فلسطين» للواء محمد طارق الإفريقي
2025-06-11مركز المدى للدراسات الفكرية والاستراتيجية
تحليل فكري – يونيو 2025
تمهيد:
في زمن تتعاظم فيه سلطة “الرأي العام”، ويتحوّل فيه “الهاشتاغ” إلى أداة ضغط، وتُدار فيه المعارك الكبرى عبر موجات من الغضب الشعبي أو الاندفاع الجماعي، يعود كتاب “سيكولوجية الجماهير” للمفكر الفرنسي غوستاف لوبون ليشكّل مرآة فكرية لما يشهده العالم من ظواهر جماهيرية، تُحرّك السياسة، وتُغيّر مصائر الدول.
بين الفرد والجماعة: ولادة عقل جديد
يرى لوبون أن الفرد حين ينخرط في الجماهير، لا يعود ذاته. يذوب الوعي الفردي في الوعي الجمعي، ويتحوّل السلوك العقلاني إلى تفاعل عاطفي. هذا التحول لا يُنتج فقط سلوكًا مختلفًا، بل عقلًا مختلفًا، تحكمه الانفعالات لا الحجج، والصور لا الأفكار، والرموز لا المنطق.
وبحسب تحليله، فإن الجماهير تمتلك عقلًا بدائيًا، أقرب إلى الحالة الغريزية. لا تتأمل، ولا تُحلل، بل تؤمن وتنفعل وتتحرك بلا وعي نقدي. ومن هنا، تأتي خطورة الجماهير وأهميتها في آن.
العاطفة بدل العقل: كيف تُقاد الجماهير؟
يضع لوبون يده على مفارقة مركزية: الجماهير لا تُقنع بالدلائل، بل تُقاد بالإيحاء والتكرار والصورة. من هنا، يكون الزعيم الجماهيري هو من يُجيد صناعة الانفعالات، لا من يُتقن عرض الأفكار. فالكلمة القوية، والشعار البسيط، والرمز العاطفي، تفعل بالجماهير أكثر مما يفعله كتاب فلسفي.
إن ما يحرّك الجماهير، وفقًا للوبون، ليس الحقائق الموضوعية، بل الإيمان، والخوف، والأمل. ولذلك، فإن التحكم في الجماهير، بحسب رؤيته، يبدأ من التحكم في خيالها.
زعيم الجماهير: كاريزما تتجاوز العقل
لا يولد الزعيم الجماهيري من برامج عقلانية، بل من قدرة استثنائية على تجسيد رغبات الجماهير وآلامها. إن الزعيم، في منطق لوبون، هو مزيج من النبوءة والتنويم المغناطيسي. وهو – في كثير من الأحيان – يُحرك الجماهير لا بوعيه، بل بانفعالاته وعدواه النفسية.
ولذلك، فإن العلاقة بين الجماهير وزعيمها ليست علاقة تقييم، بل علاقة افتتان أو كراهية مطلقة. فإما أن يُقدّس، أو يُكفر به؛ فلا مكان للمنطقة الرمادية.
الجماهير كقوة تاريخية: الهدم والبناء
يُحمّل لوبون الجماهير مسؤولية كبرى في صناعة التاريخ، لكنها مسؤولية مزدوجة. فهي – من جهة – تُسقط عروشًا، وتُحدث انقلابات كبرى، لكنها – من جهة أخرى – قد تهدم دون أن تبني، وتُبدل الاستبداد باستبداد آخر أكثر انفعالًا.
هذا الازدواج يعكس رؤية لوبون العميقة لدور الجماهير في العصر الحديث، حيث لم تعد الجماهير مجرّد تابع، بل أصبحت فاعلًا محوريًا في المعادلات السياسية، وأحيانًا بلا بوصلة قيمية واضحة.
الجماهير الرقمية: هل تغير الزمن أم تجدد النموذج؟
رغم أن لوبون كتب مؤلفه في نهاية القرن التاسع عشر، فإن تحليله يبدو في غاية الحداثة. فالجماهير التي تحدّث عنها بالأمس في الساحات والميادين، تظهر اليوم على شكل جماهير رقمية على منصات التواصل، تتشارك في السلوكيات نفسها: الانفعال، العدوى، التبسيط، التقديس، التدمير الرمزي.
وهنا، يُطرح سؤال فلسفي: هل تغيّرت الجماهير؟ أم أننا فقط وسّعنا مداها وأدواتها؟
ربما لم يتغير شيء سوى المسرح؛ أما السيكولوجيا، فما زالت تحكمها ذات القوانين التي رصدها لوبون بدقة.
خلاصة وتوصيات تحليلية:
فهم الجماهير ضرورة سياسية لا رفاهية معرفية؛ فصانع القرار الذي يجهل ديناميكيات الحشود، سيكون رهينة ردود أفعالها.
إدارة الرأي العام تحتاج إلى خطاب عاطفي ذكي، لا مجرد مرافعة عقلانية؛ فالعاطفة تُوجّه الجماهير أسرع من الفكرة.
المثقف مسؤول عن ترشيد الجماهير، لا التملق لها؛ فدوره ليس فقط في التنوير، بل في الوقوف ضد “عدوى الانفعال” التي قد تهدم العقلانية العامة.
وسائل الإعلام الرقمية تحتاج إلى مقاربات سيكولوجية لا فقط تقنية؛ لأنها أصبحت المصنع الجديد لصناعة الجماهير وتوجيهها.
مركز المدى للدراسات الفكرية والاستراتيجية
“نحو فهم أعمق للتحولات الفكرية في زمن الجماهير”
المراجع
[i] غوستاف لوبون (1841–1931) مفكر فرنسي وعالم نفس اجتماعي، عُرف بتحليلاته العميقة لسلوك الجماهير وتأثيرها على السياسة والمجتمع. كتابه سيكولوجية الجماهير يُعد من أبرز مؤلفاته، وقد تناول فيه كيف يفقد الفرد وعيه النقدي داخل الحشود ويتحول إلى كائن عاطفي موجه. شكّل هذا الكتاب مرجعًا أساسيًا لفهم الحركات الجماهيرية وصعود الزعامات الكاريزمية في العصر الحديث.