
الرمادي ليس دائمًا حياديًا
2025-06-21
الخوف من الحرية – إريك فروم: قراءة عربية
2025-06-22مركز المدى للدراسات الفكرية والاستراتيجية
تحليل سياسي وأمني | يونيو 2025
مقدمة
في قلب واحدة من أكثر الجغرافيا هشاشة في العالم، تُعيد الجماعات المسلحة في الساحل الإفريقي تعريف منطق القوة بعيدًا عن الدولة. فهذه الكيانات اللامركزية، التي تنشط عبر حدود رخوة بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد، لا تستند إلى جيوش نظامية ولا إلى منظومات تسليح تقليدية، ومع ذلك، باتت تمتلك قدرات نارية تفوق أحيانًا ما بحوزة القوات الحكومية.
ورغم غياب دولة راعية بشكل مباشر، أو مصانع تسليح محلية متطورة، إلا أن هذه الجماعات أوجدت لنفسها منظومة تسليح بديلة تتغذى من مسارات متعددة: نهب مستودعات الجيوش، شبكات التهريب، السوق السوداء، التمويل غير المشروع، والدعم غير المباشر من فاعلين دوليين. إنها منظومة هجينة، عابرة للحدود، ومترابطة مع شبكات الجريمة المنظمة والاقتصاد الموازي، ما يجعلها واحدة من أكبر التحديات الأمنية والسياسية في إفريقيا جنوب الصحراء.
هذا التقرير يحاول تفكيك بنية التسلّح لدى الجماعات المسلحة في الساحل، من خلال تتبع مصادر الأسلحة، آليات التمويل، والبُنى التنظيمية التي تمكّن هذه الجماعات من الحفاظ على ترسانتها واستمرار عملياتها، في ظل انكشاف سيادي مزمن لدول المنطقة.
أولًا: سلاح الدولة في يد خصومها – حين تنقلب ترسانة الجيش إلى وقودٍ للتمرد
تشكل مخازن الجيوش الوطنية في دول الساحل أحد أبرز مصادر التسلّح للجماعات المسلحة، في مفارقة تعكس هشاشة المنظومة الأمنية أكثر من قدرة هذه الجماعات على التنظيم. فقد رصدت مؤسسة Conflict Armament Research (CAR) [i]، عبر عمليات تتبّع ميدانية في مالي وبوركينا فاسو، أن ما بين 20% إلى 30% من الأسلحة المصادرة من الجماعات الجهادية يمكن إرجاعها إلى مخزونات الجيش الرسمي.
ولا تقتصر هذه الظاهرة على حالات النهب المباشر أثناء الهجمات أو الانقلابات، بل تتسع لتشمل مسارات غير رسمية داخل المؤسسة العسكرية نفسها. في حالات عديدة، يُسهّل ضباط فاسدون بيع الذخائر والأسلحة مقابل المال أو الحماية، خاصة في المناطق البعيدة عن مركز القرار، حيث تضعف الرقابة وتختلط الولاءات.
أمثلة عديدة تؤكد هذه الدينامية:
· في بوركينا فاسو، عقب الانقلاب العسكري في يناير 2022، استغلت جماعات مسلحة الفوضى السياسية لتشنّ هجمات على مخازن سلاح في الشمال، استولت خلالها على كميات من بنادق الكلاشنيكوف وقذائف الـRPG.
· في مالي، وبعد انسحاب القوات الفرنسية من قواعد كيدال وتيساليت، وُثقت عمليات مصادرة واسعة للأسلحة والمركبات المهجورة، تحوّلت لاحقًا إلى جزء من ترسانة جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين”.
· كما كشفت تقارير أمنية عن حالات اتجار داخلية للأسلحة في مناطق تمبكتو وغاو، يقوم بها ضباط برتب متوسطة، يُعتقد أن بعضهم يتعامل مع وسطاء مقربين من الجماعات المسلحة.
هذه الظاهرة لا تفضح فقط ثغرات تأمين السلاح داخل الجيوش الوطنية، بل تكشف أيضًا عن اختلالات في الانضباط والولاء داخل المؤسسات العسكرية. فحين يتحول الضابط إلى مموّل غير مباشر لخصومه، تصبح الحرب غير متكافئة حتى داخل طرف الدولة نفسها.
والنتيجة: تتسلّح الجماعات بأسلحة يفترض أنها وُجدت لحمايتها من هذه الجماعات. ويُعاد تدوير التهديد في دورة مغلقة: الدولة تُسلّح من يقوّضها، والمجموعة المسلحة تُحوّل سلاح الدولة إلى أداة لإضعافها.
ثانيًا: التهريب الحدودي… جغرافيا تُغذّي الحرب
تُعد الحدود الليبية – النيجيرية أحد أبرز محاور تهريب السلاح في الساحل الإفريقي، خاصة بعد انهيار نظام القذافي عام 2011، حيث تدفقت كميات ضخمة من الأسلحة والذخائر من مخازن الجيش الليبي نحو الجنوب، مستفيدة من حالة الانفلات الأمني والفوضى التي أعقبت النزاع الليبي. كما يُستخدم محور السودان–تشاد كقناة موازية لتهريب الأسلحة، سواء عبر الجماعات القبلية المسلحة أو عبر شبكات تجارية–عسكرية تربط بين ميليشيات محلية وتجار سلاح عبر الحدود.
تشير بيانات مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) [ii] والمبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة (Global Initiative) [iii] إلى أن الجماعات المسلحة النشطة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو تعتمد بشكل كبير على معابر غير رسمية، تفرض من خلالها “إتاوات مرور” على قوافل التهريب، وتوفّر أحيانًا الحماية مقابل عمولة ثابتة.
وتُعد مدن مثل أغادس في النيجر، وغاو في مالي، وبرياو في تشاد، محطات لوجستية رئيسية في هذه الشبكات، حيث تُخزّن الأسلحة، ويُعاد توزيعها إلى الخلايا المسلحة في عمق المناطق النائية. كما يُستخدم خط الساحل الغربي، خاصة عبر موانئ غانا وتوغو، كنقطة دخول للأسلحة القادمة من السوق السوداء الدولية، خصوصًا عبر شحنات تجارية مموّهة.
النتيجة هي بيئة جغرافية مفتوحة تسمح بانتقال غير محدود للسلاح، وسط ضعف قدرات الدول الحدودية على الرقابة أو الردع، ما يجعل الجغرافيا نفسها عاملاً مغذّياً للصراع، لا مجرّد مسرح له.
ثالثًا: التصنيع المحلي… إنتاج السلاح من رحم الفوضى
رغم ضعف البنية الصناعية في دول الساحل، استطاعت بعض الجماعات المسلحة تطوير قدرات تصنيع محلي بدائي، مستفيدة من بيئة الصراع وانعدام الرقابة. لا يُقصد هنا مصانع متطورة أو خطوط إنتاج متكاملة، بل تقنيات بسيطة تعتمد على أدوات متاحة ميدانيًا، تُنتج بها الجماعات ما يكفي لاستمرار عملياتها القتالية.
وتشمل هذه القدرات:
· إنتاج العبوات الناسفة البدائية (IEDs)، باستخدام أسطوانات الغاز، أو مخلّفات الذخيرة، أو حتى مواد كيماوية مأخوذة من الاستخدام المدني.
· صيانة الأسلحة المعطوبة وإعادة تأهيل البنادق والأسلحة الفردية المتهالكة، عبر ورش بدائية يديرها مقاتلون ذوو خبرة تقنية أو عناصر انشقوا من الجيوش النظامية.
· استخدام الذخائر غير المنفجرة أو استغلال مخلفات المعارك (مثل القذائف والقنابل) لصنع أدوات تفجير بديلة.
وقد أشارت تقارير من مركز مكافحة الإرهاب في ويست بوينت (CTC Sentinel) [iv] ومعهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي (SIPRI) [v] إلى توسّع هذا النمط من الإنتاج في المناطق الصحراوية النائية، خصوصًا في شمال مالي وغرب النيجر، حيث يصعب على القوات الحكومية الوصول أو السيطرة المستمرة.
هذا النمط من التصنيع لا يمنح الجماعات تفوقًا نوعيًا، لكنه يُطيل من عمرها القتالي، ويمنحها نوعًا من الاكتفاء الذاتي التكتيكي، خاصة في مواجهة الحصار أو قطع الإمداد من شبكات التهريب
رابعًا: شبكات الدعم غير المعلَن… بين التغاضي والتواط
لا تقتصر ديناميات تسليح الجماعات المسلحة في الساحل الإفريقي على النهب والتهريب، بل تشمل أيضًا أشكالًا من الدعم غير المباشر والتواطؤ الصامت من أطراف دولية وإقليمية. فقد رصدت تقارير صادرة عن Conflict Armament Research (CAR) ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC)، بالإضافة إلى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) ومعهد كلينغنديل الهولندي (Clingendael Institute) [vi]، حالات موثقة لعبور أسلحة عبر مناطق يُفترض أنها خاضعة لرقابة استخباراتية مشددة، دون أي اعتراض فعلي.
وتشير هذه التقارير إلى:
- شبكات وسطاء محليين وإقليميين يعيدون توجيه شحنات الأسلحة من ليبيا أو السودان عبر تشاد والنيجر نحو جماعات في مالي وبوركينا فاسو.
- تغاضٍ مقصود من بعض القوى الدولية أو الإقليمية، باعتباره جزءًا من مقاربة “الاحتواء المرحلي” لبعض الجماعات الأقل عدوانية، أو تلك التي يُنظر إليها على أنها قادرة على كبح جماح جماعات أكثر تطرفًا.
- تمييز سياسي ضمني بين فصائل مسلحة، يتم بموجبه ترك مساحة للمناورة لبعض الجماعات لتوسيع نفوذها، بهدف خلق توازنات ميدانية في مناطق النزاع.
ويرى معهد Clingendael أن هذه السياسات قد تتحول إلى أدوات نفوذ استخباراتي، تُستخدم لكسب أوراق تفاوضية دون الانخراط العسكري المباشر، لكنها في الوقت نفسه تؤسس لواقع ميداني تُستخدم فيه الجماعات المسلحة كأدوات إدارة نزاع لا كأطراف تُراد تسويتها.
هذا النوع من التواطؤ، سواء كان سياسيًا أو لوجستيًا، يمنح الجماعات المسلحة قدرة على البقاء والتوسع، ويحوّل منظومة التسلّح إلى جزء من اللعبة الإقليمية والدولية، بدل أن تكون مجرد ظاهرة محلية ناتجة عن هشاشة داخلية
خامسًا: اقتصاد العنف… كيف موّلت الجماعة سلاحها
حتى في غياب دولة راعية، تستطيع هذه الجماعات تمويل تسليحها ذاتيًا عبر أنشطة غير مشروعة، أهمها:
مناجم الذهب في قبضة الجماعات المسلحة: بين الإتاوة والاستيلاء الكامل
تشير تقارير دولية موثوقة إلى أن الجماعات المسلحة في منطقة الساحل الإفريقي، وعلى رأسها “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” و” تنظيم الدولة في الصحراء الكبرى”، لا تكتفي بفرض إتاوات على أنشطة تعدين الذهب الأهلي، بل تمارس في كثير من الحالات سيطرة فعلية على مناجم الذهب الصغيرة والمتوسطة، خصوصًا في شمال مالي ووسط بوركينا فاسو. تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) لعام 2023، أكد أن هذه الجماعات تستغل هشاشة الدولة وتراجع حضورها الأمني في المناطق النائية لتُقيم نظامًا موازنًا، تُموّل من خلاله عملياتها العسكرية عبر ضرائب مفروضة على أنشطة التعدين، أو عبر السيطرة المباشرة على المواقع الإنتاجية.
وفي السياق ذاته، توثق دراسة منشورة في ScienceDirect (2022) [vii] اتساع الحضور المسلح في مناطق التعدين الحرفي في الساحل الإفريقي، حيث تحوّلت العديد من المناجم إلى بؤر نفوذ أمني واقتصادي خارج سيطرة الدولة المركزية. وتشير الدراسة إلى أن الجماعات المسلحة تستفيد من هشاشة الرقابة وضعف البنية المؤسسية لتفرض سيطرتها على الموارد، ما يجعل أنشطة التعدين مصدرًا رئيسيًا لتمويلها، وتُعقّد جهود التنمية والاستقرار في تلك المناطق.
من جهة أخرى، أوردت تقارير إعلامية استقصائية، مثل تلك الصادرة عن وكالة أسوشيتد برس [viii]، وقائع متعددة لهجمات واختطافات نُفّذت على مقربة من مواقع تعدين الذهب، ما يعزز الرواية القائلة بأن الجماعات لا تستخدم هذه المناطق فقط كمصدر دخل، بل تعتبرها جزءًا من مجالها الحيوي الاستراتيجي.
تثبت هذه الأدلة مجتمعة أن الجماعات المسلحة في الساحل لا تكتفي بالابتزاز أو “الجباية”، بل تملك القدرة على السيطرة الميدانية والاقتصادية المباشرة على قطاعات استراتيجية مثل الذهب، ما يمنحها استقلالًا ماليًا جزئيًا عن أي دعم خارجي، ويزيد من صعوبة استئصالها بوسائل أمنية تقليدية.
ويفتح هذا الواقع الباب لفهمٍ أعمق لآليات التمويل المعتمدة، والطرق التي مكّنت الجماعة من ترسيخ نفوذها الاقتصادي، سواء عبر الفدية أو السيطرة على موارد طبيعية حيوية، كما سنعرض في الفقرات التالية:
أولاً: تجارة المخدرات… شراكات عبر الحدود وتمويل متطور
تشير تقارير الجهات الدولية إلى أن منطقة الساحل تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى محور حيوي لتجارة الكوكايين العابرة للقارات. يشير تقرير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة إلى تزايد واضح في حجم الكوكايين المصادرة في دول مثل مالي، تشاد، بوركينا فاسو، والنيجر، حيث ارتفع إجمالي المصادرات من متوسط 13 كيلوغراماً سنوياً خلال 2015–2020 إلى نحو 1.466 طن في 2022. [ix]
تلعب دول غرب أفريقيا، وبخاصة نيجيريا وغانا، دوراً محورياً في هذه الشبكات، حيث تُستخدم كبوابات لمرور المخدرات من ساحل غرب القارة.
ووفقًا لتقارير صادرة عن مشروع ENACT [x] (المعني بتعزيز استجابة إفريقيا للجريمة المنظمة)، تُعد كل من مالي والنيجر نقاط عبور رئيسية في تجارة الكوكايين العابرة للقارات. تمر شحنات الكوكايين، التي تُعبّأ أولًا في دول مثل غينيا بيساو أو غانا، عبر اليابسة مرورًا بأغادس في النيجر وغاو في مالي. وتفرض الجماعات المسلحة المحلية إتاوات على هذه الشحنات عبر “معابر غير رسمية” قريبة من الحدود الرسمية، ضمن شبكات تهريب معقدة تدمج بين الجريمة المنظمة والنزاعات المسلحة [xi] .
تلعب الكارتلات النيجيرية والغانية دور الوسيط والمنظم، حيث توفر شبكات الاتصال والتخزين بداية، وتسلم الشحنات لوكلائها في الساحل، بينما تقوم الجماعات المسلحة المحلية بفرض “ضرائب طريق” وأحياناً تقديم الحماية، وهو ما أشار إليه موقع Atlantic Council في 2024 [xii] ، موضحاً أن الرسوم المالية قد تصل إلى عشرات الآلاف من الدولارات لكل شحنة، وتحدد المدن مثل أغادس كقواعد لوجستية مؤقتة قبل تحويل الشحنة شمالاً أو شرقاً نحو ليبيا ثم أوروبا أو الشرق الأوسط.
هذه الشراكة بين قدرات الكارتلات التقنية واللوجستية، وجهود الجماعات المسلحة الأمنية، توفر مصدر تمويل ثابت ومتنوع، يساهم مباشرة في قدرات التجنيد والتوسع العملياتي، ويجعل الجماعات أقل اعتماداً على التمويل التقليدي، وأكثر قدرة على البقاء في بيئة أرضية رابضة وغير مستقرة أمنياً.
ثانياً: الخطف مقابل الفدية: تمويل بالاستراتيجية لا بالفرصة
تشكل عمليات الخطف مقابل الفدية أحد أبرز مصادر التمويل المستدام للجماعات المسلحة في منطقة الساحل، وعلى رأسها “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” (JNIM). لم تعد هذه العمليات عشوائية أو ردود فعل أمنية، بل تحوّلت إلى آلية تمويل استراتيجية ومدروسة، يتم تخطيطها وتنفيذها باحتراف وفق معايير متعددة، أبرزها جنسية الضحية، والانتماء المهني، وقابلية التفاوض الدولي.
1. الجماعة والنموذج التنظيمي
تتصدر JNIM هذا النشاط، حيث تنفّذ بشكل دوري عمليات اختطاف تستهدف موظفي منظمات دولية، صحفيين، وسياحًا، وحتى قادة محليين.
مثال بارز هو اختطاف الصحفي الفرنسي أوليفييه دوبوا في غاو – مالي، في أبريل 2021، حيث احتُجز 711 يومًا وأُفرج عنه في مارس 2023، بعد مفاوضات غير معلنة، رجّحت تقارير أن قيمة الفدية تراوحت بين 8 و10 ملايين يورو [xiii] .
2. أنماط الخطف وتنوع اليد العاملة
منذ عام 2012، وثقت Global Initiative أن الجماعات المسلحة تعتمد على شبكات محلية من المهربين أو المسلحين التقليديين، ممن يملكون معرفة دقيقة بالبيئة والطرقات القبلية، لتنسيق عمليات الخطف [xiv] .
تتمركز هذه الأنشطة أساسًا في شمال مالي، وإقليم الساحل في بوركينا فاسو، ومنطقة تيلابيري في النيجر، حيث تقلّ قدرة الدولة المركزية، وتتوفر بيئة مثالية للتخفي، والضغط التفاوضي.
3. أمثلة ميدانية
في ديسمبر 2021، اختُطفت ممرضة وقابلة كانتا تعملان مع منظمة غير حكومية في سييتنغا، بوركينا فاسو، ثم نقلتا إلى النيجر ومالي، حيث بقيتا محتجزتين نحو ثلاثة أشهر. وأُفرج عنهما في مارس 2022 بعد دفع فدية تُقدّر بين 20 و23 ألف يورو، وفق تقرير صادر عن Global Initiative [xv] .
في يناير 2023، وقع اختطاف جماعي قرب أربيندا – بوركينا فاسو، استهدف عائلات من النساء والأطفال، وتم احتجازهم لأسبوع، وأُفرج عنهم لاحقًا بعد وساطات محلية.
4. أرقام وإحصائيات
• وفق ISS Africa، سُجل أكثر من 180 حالة اختطاف خلال النصف الأول فقط من عام 2023 في كل من مالي وبوركينا فاسو، ما يعادل حالة اختطاف يوميًا تقريبًا [xvi].
• كما تشير قاعدة بيانات ACLED وGlobal Initiative إلى أن JNIM نفّذت أكثر من 1460 عملية اختطاف بين عامي 2017 و2025، وكان غالبيتها يستهدف أجانب، وهو ما يرسّخ اعتماد الجماعة على الفدية كمصدر مالي دائم [xvii] .
خلاصة تحليلية
تُظهر هذه الوقائع أن الخطف بات جزءًا مؤسسيًا في هيكل التمويل للجماعات المسلحة. تتم العمليات بقدر عالٍ من التنظيم: مراقبة مسبقة، استخدام أدلة محليين، احتجاز في أماكن يصعب اقتحامها، ثم تفاوض عبر وسطاء معقّدين. تتحدد قيمة الفدية بناءً على جنسية الضحية وسقف التنازلات السياسية المحتملة، ما يجعلها مصدرًا استراتيجيًا يدرّ ملايين الدولارات سنويًا، تُستخدم لتغطية نفقات التنظيم، والرواتب، وشراء السلاح، وتوسيع النفوذ في المناطق النائية
ثالثاً: الزكاة كضريبة ميدانية: من الشرعية الدينية إلى الاستخدام السلطوي
تمثل الضرائب المحلية القسرية، وعلى رأسها” الزكاة”، وتعد أحد أبرز مصادر التمويل الذاتي للجماعات المسلحة مثل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM) وتنظيم الدولة في الصحراء الكبرى (ISGS).
إذ تحوّلت من عبادة دينية إلى إتاوة إلزامية تُفرض على السكان في مناطق النفوذ، متجاوزةً الأطر الشرعية إلى أدوات للسيطرة الميدانية.
تُجمع “الزكاة” في مناطق نفوذ الجماعات المسلحة بالساحل الإفريقي بأسلوب إداري قسري، حيث تُنشئ هذه الجماعات ما يُعرف بـ” لجان الزكاة” في مدن مثل غاو وتمبكتو [xviii]، تتولى جباية الأموال من الفلاحين والتجار المحليين. وتُفرض هذه الجباية تحت وطأة التهديد بالسلاح أو عبر آليات ضغط اجتماعي، بحيث لا تترك للسكان خيارًا حقيقيًا للرفض، ما يجعل من هذه “الزكاة” أداة للهيمنة أكثر منها فريضة دينية طوعية.
في هذا السياق، ذكرت صحيفة واشنطن بوست (يونيو 2025) [xix] أن JNIM فرضت الزكاة على سكان منطقة بوكل دو موهون في بوركينا فاسو ضمن “اتفاقات محلية”، وقدّر العائد السنوي من المحصول الزراعي وحده بملايين الدولارات.
وتوثّق ACLED هجمات على مدنيين في تيلابيري وغاو رفضوا دفع ما وصفته الجماعة بـ” الزكاة”، مما يؤكد أن هذه الضرائب تُنفذ تحت تهديد السلاح.
ورغم طابعها القسري، استخدمت بعض الجماعات تلك الموارد في تقديم خدمات محدودة، كحماية القوافل أو إقامة نقاط أمنية، ما منحها نوعًا من “الشرعية الوظيفية” في أعين بعض السكان، وفق تحليل صادر عن معهد الدراسات السياسية الدولية (ISPI) عام 2021.
خلاصة تحليلية
تحوّلت الزكاة من فريضة دينية إلى ضريبة مؤسسية تُستخدم في تمويل أنشطة الجماعات المسلحة، من التسليح والاختطاف إلى تثبيت السيطرة الميدانية. وللتصدي لهذا النمط من “اقتصاد العنف”، لا بد من تعزيز حضور الدولة في المناطق الريفية، دعم الخدمات الأساسية، وتفعيل أدوات الردع القانوني والأمني لمنع تكرّس هذه النُظم الموازية
خاتمة
لم تعد الجماعات المسلحة في الساحل الإفريقي مجرد حركات تمرّد عابرة أو انعكاسات لفراغ أمني مؤقت، بل تحوّلت إلى منظومات موازية تجمع بين أدوات العنف وآليات الحكم القسري. فهي تفرض الضرائب، تدير الموارد الطبيعية، تشكّل شبكات ابتزاز وتهريب عابرة للحدود، وتدخل أحيانًا في تفاوض مع الحكومات، رغم كونها كيانات خارجة عن القانون لا تمتلك أي شرعية داخلية أو دولية.
هذا التحول الكياني يعكس فشل الدولة المركزية في أداء وظائفها الأساسية، ويُظهر كيف مهّد الفراغ التنموي، والتفكك المؤسساتي، وتغاضي بعض الشبكات الإقليمية والدولية، الطريق نحو نشوء اقتصاد بديل تقوده جماعات العنف. لقد أصبح “اقتصاد الجماعة” ينافس “اقتصاد الدولة”، وأمست السلطة تُنتزع بالبندقية بدلًا من أن تُمارَس بموجب الدستور.
إن استمرار هذا الواقع لا يُهدد فقط استقرار دول الساحل، بل يُنذر بتفكك شامل في بنية الإقليم، ويُمهّد لمشهد قاتم تُدار فيه مناطق بأكملها من قبل جماعات لا شرعية لها، تمارس الإرهاب باسم الحماية، وتُحكِم قبضتها بقوة السلاح.
ولا سبيل لمواجهة هذه المنظومة سوى بمقاربة شاملة تستعيد دور الدولة، وتُضعف جاذبية العنف، وتعيد للمجتمع ثقته بمنظومة الحماية والقانون.
فإما أن تنجح الدولة في كسر حلقة “الجماعة–الاقتصاد–السلاح”، أو نظل نراوح في دورة موت الدولة وانبعاث العنف، بلا نهاية واضحة
توصيات استراتيجية
1. تفكيك المنظومة الاقتصادية للجماعات المسلحة
- فرض رقابة صارمة على أنشطة التعدين غير الرسمي، لا سيما مناجم الذهب في بوركينا فاسو ومالي، عبر آليات ميدانية وتشريعية مشتركة.
- تتبّع تدفقات أموال الفدى عبر النظام المالي الإقليمي والدولي، مع تفعيل أدوات قانونية لتجفيف مصادر تمويل الاختطاف.
- تفكيك شبكات التهريب اللوجستي والمالي من خلال تعاون أمني منسّق مع دول العبور مثل النيجر وغانا وغينيا بيساو.
2. تعزيز الحضور المدني للدولة في مناطق الهشاشة
- تنفيذ مشاريع تنموية عاجلة تشمل التعليم، والرعاية الصحية، والمياه النظيفة في المناطق المتأثرة بالنزاع لتعويض الفراغ الخدمي.
- إدماج الكوادر المحلية ومنظمات المجتمع المدني في جهود إعادة الإعمار، بما يعزز الثقة بين الدولة والمجتمعات المحلية.
3. تحصين المجتمعات المحلية وبناء مناعة اجتماعية
- دعم الزعامات التقليدية والروحية المحايدة باعتبارها وسطاء شرعيين بين الدولة والسكان، وتعزيز دورهم في نزع فتيل الاستقطاب.
- تقديم حوافز اقتصادية ومجتمعية للسكان في مناطق النفوذ الهشّ، بما يسحب البساط من تحت نفوذ الجماعات المسلحة.
4. تطوير أدوات الفهم والتحليل الاستراتيجي
- تمويل مراكز الدراسات المحلية والإقليمية لرصد تحولات الجماعات المسلحة، وتحليل أنماط التكيّف والتمويل.
· إنشاء قاعدة بيانات إقليمية موحدة حول مصادر التسليح والتمويل، تُستخدم لتوجيه السياسات الوقائية والأمنية بصورة فعّالة.
5. إطلاق حوارات فكرية ومنظومات تعليمية لمواجهة التطرف
· تنظيم منصات حوارية تضم علماء ومفكرين وزعامات اجتماعية من دول الساحل، لتفكيك سرديات الجماعات المتطرفة، وبناء خطاب بديل يعيد الاعتبار للوسطية والانتماء الوطني.
· الاستفادة من تجربة موريتانيا في معالجة الفكر المتشدد، التي اعتمدت على مناظرات مباشرة مع المعتقلين، وتوظيف المرجعيات الفقهية المحلية في تفكيك الأسس الشرعية التي تستند إليها الجماعات.
· دمج المناهج التعليمية في المناطق الهشّة بمضامين تحصّن الطلاب من الفكر التكفيري، مع تدريب المعلمين على أساليب التوعية الفكرية والثقافية.
· دعم المبادرات الإعلامية المحلية، خصوصًا الإذاعات المجتمعية والمنصات الرقمية، لإيصال رسائل التوعية، وفضح انتهاكات الجماعات المسلحة، وتقديم رواية بديلة تُسهم في عزلها اجتماعيًا.
إعداد: وحدة الدراسات الأمنية – مركز المدى للدراسات الفكرية والاستراتيجية
يونيو 2025
المراجع
[i] مؤسسة أبحاث التسليح في النزاعات (Conflict Armament Research – CAR)
متخصصة في تتبّع الأسلحة والذخائر في مناطق النزاع حول العالم، وقد نفّذت تحقيقات ميدانية في الساحل الإفريقي، وخاصة في مالي وبوركينا فاسو.
الرابط: https://www.conflictarm.com
[ii] مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC)
ينشر تقارير سنوية حول تهريب الأسلحة والمخدرات وتمويل الإرهاب في إفريقيا.
الرابط: https://www.unodc.org
[iii] المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود (Global Initiative Against Transnational Organized Crime) توثق نشاطات الجماعات المسلحة في إفريقيا وارتباطها بشبكات الجريمة العابرة للحدود، مثل الذهب والمخدرات.
الرابط: https://globalinitiative.net
[iv] مركز مكافحة الإرهاب في ويست بوينت (CTC at West Point)
يُصدر دراسات تحليلية حول الجماعات الجهادية والتكتيكات الميدانية بما فيها تصنيع الأسلحة البدائية.
الرابط: https://ctc.westpoint.edu
[v] معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي (SIPRI) متخصص في تتبع تجارة السلاح والتحليل الأمني العالمي، ويوفّر بيانات عن عمليات نقل الأسلحة في مناطق النزاع. الرابط: https://www.sipri.org
[vi] معهد كلينغينديل الهولندي للعلاقات الدولية (Clingendael Institute)
يُعنى بدراسة الديناميات الأمنية والسياسية في مناطق النزاع، ويصدر تحليلات عن الاحتواء المرحلي للجماعات المسلحة. الرابط: https://www.clingendael.org
[vii] توثق دراسة منشورة في ScienceDirect (2022) تحول مناجم التعدين الحرفي إلى بؤر نفوذ للجماعات المسلحة في الساحل، بعيدًا عن سيطرة الدولة:
https://doi.org/10.1016/j.jrurstud.2023.103029
[viii] وكالة أسوشيتد برس (AP)، “Jihadists kill 3, kidnap 2 Chinese at gold site in Mali’s Sahara,” 1 مايو 2024.
[ix] تقرير “World Drug Report 2024” الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC)، يُوثّق تصاعد تهريب الكوكايين في منطقة الساحل، حيث ارتفعت المصادرات من متوسط 13 كغ (2015–2020) إلى 1.466 طن في 2022، في دول مثل مالي، النيجر، وتشاد، وبوركينا فاسو.
رابط التقرير الكامل: https://www.unodc.org/res/wdr2024/WDR_2024_SPI.pdf
[x] مشروع ENACT (تعزيز استجابة إفريقيا للجريمة المنظمة العابرة للحدود) هو مبادرة تعاونية تهدف إلى تطوير فهم شامل وتحسين قدرات التصدي للتهديدات الإجرامية في القارة الإفريقية. يشرف على المشروع المعهد الإفريقي للدراسات الأمنية (ISS)، بالشراكة مع كل من الشرطة الجنائية الدولية (INTERPOL) والمعهد النرويجي للعلاقات الدولية (NUPI)، وبدعم من الاتحاد الأوروبي.
رابط الموقع: https://enactafrica.org
[xi] مشروع ENACT، تقرير “تهريب الكوكايين غير المشروع في غرب وشمال إفريقيا”، بالتعاون مع الإنتربول، نُشر في 22 يناير 2024 رابط التقرير كاملا ( باللغة الإنجليزية):
[xii] رابط المقال الكامل (Atlantic Council):
[xiii] تقرير إخباري يوثق شهادة الصحفي الفرنسي أوليفييه دوبوا بعد احتجازه 711 يومًا من قبل جماعة JNIM في مالي، ويعرض ظروف أسره وتفاصيل الإفراج عنه.
الرابط: https://apnews.com/article/8f2f4ae746d272ad1f5da753de857f1d
[xiv] مبادرة المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود. (2023). “التهديد الصامت: عمليات الاختطاف في بوركينا فاسو”. رابط التقرير الكامل – بصيغة PDF
[xv] المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود (Global Initiative Against Transnational Organized Crime). (مارس 2023). التهديد الصامت: الاختطافات في بوركينا فاسو، الصفحتان 28–29 رابط التقرير:
[xvi] فلور بيرجر، الاختطاف في الساحل: سلاح مفضل في الحروب، معهد الدراسات الأمنية الإفريقي (ISS Africa)، 4 أكتوبر 2023.
رابط التقرير: https://issafrica.org/iss-today/kidnappings-in-the-sahel-a-favoured-weapon-of-war
[xvii] المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة وACLED. (18 أكتوبر 2023). الجماعات المسلحة غير الحكومية والاقتصادات غير المشروعة في غرب إفريقيا: JNIM. تقرير مشترك، يتضمن بيانات حول ظاهرة الاختطاف في منطقة الساحل. متاح بصيغة PDF عبر الموقع الرسمي:
[xviii] غاو وتمبكتو: مدينتان تقعان في شمال مالي على ضفاف نهر النيجر، وتُعدّان من أبرز المراكز التاريخية في الصحراء الكبرى، حيث شكّلتا قلب الإمبراطوريات الإسلامية القديمة (مالية وصونغاي). منذ 2012، أصبحتا مسرحًا رئيسيًا لنشاط الجماعات المسلحة بفعل ضعف الدولة وتدهور الأمن.
المصدر (إنجليزي):
Gao – https://www.britannica.com/place/Gao-Mali
Timbuktu – https://www.britannica.com/place/Timbuktu-Mali
[xix] واشنطن بوست. (8 يونيو 2025). A powerful, opaque al‑Qaeda affiliate is rampaging across West Africa. رابط: https://www.washingtonpost.com/world/2025/06/08/jnim-militants-west-africa-sahel-terrorism/



