
سلاح من دون دولة: كيف تتسلّح الجماعات المسلحة في الساحل الإفريقي؟
2025-06-21
اليد التي زرعت القنبلة: كيف صنع الغرب خصمه النووي ثم أعلن الحرب عليه؟
2025-06-23قراءة فكرية في كتاب – صادر عن مركز المدى للدراسات الفكرية والاستراتيجية
هل نخاف الحرية أكثر مما نتمناها؟
وهل يمكن أن نختار القيد، لا لأننا مضطرون، بل لأننا لا نعرف كيف نعيش بدونه؟
هذه ليست أسئلة عابرة، بل هي جوهر أطروحة الفيلسوف والمحلل النفسي الألماني–الأمريكي إريك فروم في كتابه الشهير “الخوف من الحرية” (1941) [1] ، الذي يُعدّ اليوم من النصوص الكلاسيكية لفهم العلاقة المعقدة بين الحرية، والسلطة، والذات.
سياق الكتاب: الخوف في زمن النازية
كُتب هذا العمل في ذروة الحرب العالمية الثانية، حين كانت أوروبا تشهد صعود الفاشية والنازية كنموذجين سياسيين يجدان التأييد الشعبي، رغم قمعهما للحريات.
فروم – وهو يهودي ألماني هارب من النازية – لم يفسّر هذا التأييد كتعبير عن قناعة أيديولوجية، بل كنتاج لحالة نفسية: الهروب من الحرية.
فالإنسان الذي تَحرر من الإقطاع والدين، ومن روابط الأسرة والجماعة، وجد نفسه أمام عالم مفتوح ومرعب.
ولم يكن أمامه إلا أن يلوذ بسلطة قاهرة تعده بالأمن والهوية… ولو على حساب كرامته واختياره.
أطروحة الكتاب: الحرية عبء نفسي قبل أن تكون هدفًا سياسيًا
يرى فروم أن الإنسان المعاصر – بعد تحرّره من القيود الدينية والسلطوية التقليدية – وجد نفسه في مواجهة فراغ مخيف:
· فهو لم يعد مُسيّرًا بالكامل، لكنه لم يمتلك أدوات القرار الحرّ.
· خرج من حالة التبعية، لكنه لم يعرف ماذا يفعل بالاستقلال.
· وفي غياب المعنى، تحوّلت الحرية من نعمة إلى عبء، ومن وعد إلى تهديد.
ومن هنا نشأ – كما يرى فروم – نوع جديد من “العبودية الطوعية”، حيث يهرب الفرد من حريته بوعي أو بدونه، نحو نماذج تحكمه من جديد… لكن بثوب جديد.
آليات الهروب من الحرية
فروم لم يكتفِ بالتشخيص، بل حدّد ثلاث آليات يلوذ بها الإنسان حين يخشى أن يكون حرًا بالكامل:
1. النزعة التسلطية (Authoritarianism):
الفرد يخضع لسلطة قوية – دينية أو سياسية أو اجتماعية – يراها المنقذ من الحيرة، ويشعر بالأمان حين يتنازل عن حريته لصالح طاعة مطلقة.
2. النزعة التدميرية (Destructiveness):
حين يعجز الإنسان عن التأثير الإيجابي في محيطه، يُفرّغ أزمته في العنف ضد الآخر أو ضد الذات، في سلوكيات هدمية ظاهرة أو خفية.
3. الامتثالية التلقائية (Automaton Conformity):
وهي الأكثر انتشارًا: حيث يذوب الفرد داخل القطيع، ويتبنى ما يقوله المجتمع أو السلطة أو “الرائج”، حتى لو فقد ذاته في الطريق.
السياق العربي: الهروب باسم الهوية والأمن
حين نقرأ فروم من داخل العالم العربي، نجد مفاتيح لفهم ظواهر متكررة:
• لماذا يتم تأييد السلطة الاستبدادية بعد الثورات؟
• لماذا يُخوّن المثقف المستقل ويُرفع من شأن الانتماء الأعمى؟
• لماذا يُروَّج للخوف من الفوضى أكثر من الشغف بالحرية؟
في كثير من الحالات، يكون الخوف من المسؤولية، والخوف من الخروج على الجماعة، أقوى من الرغبة في تقرير المصير.
مثال حي:
في مصر ما بعد 2011، وبعد تجربة قصيرة لحكم مدني، أظهرت شرائح واسعة من المجتمع تأييدًا لعودة الحكم العسكري، بحجّة “إنقاذ البلاد من الفوضى”.
هذا التأييد لم ينبع من حب للسلطة، بل – كما يمكن فهمه من منظور فروم – من خوف عميق من الحرية:
من مسؤولية القرار، من قلق المستقبل، ومن ألا يكون هناك أحد “يمسك بالدفة”.
والمفارقة أن الجماعات المتشددة – الدينية منها أو القومية أو الثورية – تقدم نفسها كبدائل لـ” التحرر”، لكنها تكرّر ذات الآليات التي تحدث عنها فروم: التبعية، القمع، والانصهار في الجماعة.
درس من فروم: الحرية تبدأ من الداخل
الحرية، كما يصوّرها فروم، ليست مجرد حالة سياسية، بل تحرر داخلي عميق.
أن تعرف نفسك، أن تتحمل مسؤولية اختياراتك، أن ترفض أن تكون أداة بيد آخر – أيًا كان – حتى لو رفع راية الدين أو الثورة أو الوطن.
وهذا ما ينقص مجتمعاتنا:
• ثقافة ترى في الحرية مسؤولية، لا مجرد شعار.
• وتربية تُنمّي الفرد لا تذوّبه.
• وسلطات تُحاور الفرد الحر، لا تبتزّه باسم الجماعة أو الأمن أو العقيدة.
ختامًا
ليس أصعب من أن تكون حرًا… إلا أن تكون مسؤولًا عن هذه الحرية.
والمعركة ليست دائمًا بين المواطن والسلطة، بل في داخل الإنسان نفسه:
- هل يجرؤ أن يختار؟
- أن يخطئ ويتعلم؟
- أن يواجه وحدته؟
- أن يظل إنسانًا… رغم كل الإغراءات بالانصهار والتبعية؟
في زمن يغريك بأن تُقلّد، أن تتبع، أن تسير مع التيار، تبقى “الخوف من الحرية” دعوة عميقة لإعادة التفكير:
هل نحن نريد أن نكون أحرارًا فعلًا… أم فقط نحب أن نحلم بذلك؟
الهامش المرجعي
[1] إريك فروم، الخوف من الحرية، مجلة الكتب العربية، https://www.alarabimag.com/books/13754-الخوف-من-الحرية.html.




