
انفصام المعايير في الخطاب: قراءة في التناقض بين الخطاب الدعوي والممارسة الشخصية
2025-06-24
القاعدة تعود من بوابة الساحل: قراءة في تقرير واشنطن بوست عن تمدد “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” (JNIM)
2025-07-09قراءة فكرية في كتاب “نظرية في العدالة” للفيلسوف الأمريكي جون رولز
صادر عن مركز المدى للدراسات الفكرية والاستراتيجية
هل نريد عدالة حقيقية… أم فقط نحب أن نُلوّح بها؟
العدالة… تلك الكلمة التي تتردّد في خطب السياسيين، وشعارات الثورات، وأحاديث الناس في الأسواق والمقاهي.
لكنها غالبًا ما تكون أشبه بـ” الوعد المؤجّل”؛ تُطلّ من نوافذ التنظير، وتغيب عن أبواب التطبيق.
هل العدالة فكرة مثالية؟ هل يمكن تحقيقها؟ ومن يحق له أن يضع معاييرها؟
هذه ليست مجرد أسئلة فلسفية، بل هي لبّ الصراع بين الرؤى الفكرية والدينية والسياسية حول العالم.
هذا ما يجعل العودة إلى كتاب “نظرية في العدالة” للفيلسوف الأمريكي جون رولز [1]، محاولة لفهم الجذور العميقة لمفهوم العدالة في الفكر الحديث، ولعقد حوار عقلاني بين هذا التصور وبين الرؤية الإسلامية التي ترفع بدورها شعار “العدل أساس الملك”.
⸻
سياق الكتاب: ما بعد الحرب والبحث عن التوازن
نُشر الكتاب عام 1971، بعد عقود من الفوضى العالمية التي خلفتها الحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة، والصراعات الطبقية الحادة.
وكان الفكر الغربي يئنّ تحت ضغط نقد النفعية، وخيبات الليبرالية، وتحديات الاشتراكية.
جاء رولز ليُعيد بناء مفهوم العدالة من منظور عقلاني–مؤسسي، يسعى إلى موازنة الحرية الفردية والمساواة الاجتماعية، ويضع تصورًا أخلاقيًا لعقد اجتماعي جديد يصلح لمجتمع تعددي.
⸻
أطروحة الكتاب: العدالة كإنصاف – من حجاب الجهل إلى عقل الدولة
رولز لا يُعرّف العدالة بوصفها ما يتفق عليه الناس فحسب، بل ما كان يمكن أن يتفقوا عليه لو لم يعرفوا مواقعهم الاجتماعية والدينية والجنسية.
هذه هي فكرة “حجاب الجهل”:
أن تتخيل نفسك تضع قوانين المجتمع، دون أن تعرف إن كنت غنيًا أو فقيرًا، أبيض أو أسود، مسلمًا أو مسيحيًا، أو يهودياً.
في هذه الحالة، ستكون مضطرًا لوضع قواعد لا تظلم أحدًا… لأنك قد تكون من ضمن من يُظلم.
من هنا، يشتق رولز مبدأين:
1. المساواة في الحريات الأساسية لجميع الأفراد؛
2. قبول اللامساواة فقط إذا حسّنت وضع الأقل حظًا – ما يسميه “اللامساواة العادلة”.
العدالة، إذًا، ليست مساواة عددية، ولا صدقة عاطفية، بل هندسة عقلانية للإنصاف المؤسسي.
⸻
تفصيل المفاهيم: العقل فوق الامتيازات
“يرتكز تصور رولز للعدالة على مقاربة بنيوية عقلانية، تسعى إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية عبر مبادئ مؤسسية واضحة، بدلًا من الاعتماد على النوايا أو المشاعر الفردية.
فهو لا يدعو الأغنياء إلى الرحمة، بل يدعو الدولة إلى بناء آليات ضريبية وتأمينية تضمن التوازن.
العدالة ليست عاطفة، بل مسؤولية سياسية.
وهو هنا يُقدّم نموذجًا عمليًا للديمقراطية الأخلاقية، التي ترفض أن تترك مصير الفرد للظروف أو السوق أو الحظ.
⸻
السياق العربي–الإسلامي: هل العدالة وحيٌ أم عقد؟
في مقابل ذلك، تنطلق تيارات الإسلام السياسي من تصور يرى أن العدالة وحيٌ يُؤخذ من الشريعة، وأن الحلول تكمن في العودة إلى النصوص، لا في ابتكار أنظمة جديدة.
لكن في الواقع، كما تكشف تجارب الحكم في السودان، مصر، غزة وتونس، لم تنجح هذه التيارات في تحويل الخطاب الأخلاقي إلى منظومة مؤسسية.
بل إن أدواتهم – كالزكاة والوقف – بقيت فردية أو دينية، دون تطوير آليات حديثة لتكافؤ الفرص أو فرض ضريبة عادلة أو ضمان صحي.
والنتيجة: عدالة مُعلنة… ولكن دون عدالة محسوسة.
⸻
مثال حي: السودان وتعدد الشعارات… وغياب العدل
حكم التيار الإسلامي السودان نحو ثلاثة عقود، رفعوا فيها شعار “هي لله”، وتحدثوا عن المشروع الحضاري الإسلامي.
لكن، كما في تحليل نقدي واسع، كانت النتائج ضد الشعار:
• هيمنة حزبية.
• تهميش مناطقي.
• فساد مالي.
• وإقصاء سياسي ممنهج.
لم تكن المشكلة في النية، بل في غياب المنظومة.
تمامًا كما يرى رولز: لا فائدة من المبادئ إن لم تُترجم إلى سياسات تُنصف الضعفاء بغضّ النظر عن هويتهم.
⸻
وماذا عن الأنظمة الأخرى؟ هل كانت أكثر عدالة؟
لكن العدالة لم تكن أفضل حالًا في غالبية الأنظمة الأخرى، التي وإن لم تنتمِ إلى الإسلام السياسي، تبنّت خطابات ليبرالية أو تنموية حديثة، لكنها لم تترجمها إلى واقع ملموس.
وهنا، تبرز مفارقة لافتة: حتى التيارات القومية أو اليسارية – كالبعثيين والناصريين – التي رفعت بدورها شعارات العدالة الاجتماعية، وتبنّت خطابًا تحرريًا مناهضًا للاستغلال، انتهت إلى نظم استبدادية أقصت الجماهير واحتكرت الثروة والسلطة.
لم يكن الإشكال في المرجعية – إسلامية كانت أم علمانية – بل في بنية الدولة نفسها، التي بقيت قائمة على المركزية والولاء السياسي وغياب المحاسبة.
إن هذا التماثل في النتائج، رغم اختلاف الشعارات، يشير إلى أن أزمة العدالة في العالم العربي ليست أزمة فكر فقط، بل أزمة نظام إنتاج السلطة وتوزيعها.
فالعدالة لا تنمو في ظل دولة ترى في الشعب مجرد موضوع للحكم، بل تحتاج إلى مؤسسات قادرة على كبح التسلّط، وتحقيق التوازن، وضمان الحقوق بغضّ النظر عن المرجعية الحاكمة
⸻
دروس وتأملات: المرجعية لا تصنع العدالة وحدها
ما يمكن استخلاصه من قراءة رولز في السياق العربي:
• أن العدالة لا تُنتجها المرجعيات، بل البُنى والمؤسسات.
• أن الإسلام السياسي، رغم رمزيته الدينية، لم ينجح في بناء عدالة قابلة للعيش.
• أن العدالة مشروع طويل المدى، يحتاج إلى دولة عقلانية لا إلى جماعة دعوية.
⸻
خاتمة: حين يتحاور الوحي مع الوحي
رولز لا يُلغي الدين، لكنه يبني تصوره للعدالة على قاعدة يُمكن أن يشارك فيها الجميع، أيًا كانت مرجعياتهم.
وتيار الإسلام السياسي يملك ثروة قيمية هائلة، لكنه يفتقر إلى هندسة سياسية معاصرة تُترجم هذه القيم إلى أنظمة قابلة للتطبيق.
العدالة ليست شعارًا نعلّقه على المنابر، بل مسؤولية تشريعية ومؤسسية…
هي النظام الذي يُنصفك حتى لو لم تكن من الحاكمين… أو من المؤمنين بشعاره.
الاختبار الحقيقي لا يكمن في المرجعية المُعلنة، بل في قدرتها على إنتاج عدالة قابلة للعيش:
• هل استطاع العقل الليبرالي أن يُنصف الضعفاء؟
• هل نجح مشروع الإسلام السياسي التنظيمي في ترجمة القيم إلى مؤسسات، والمقاصد إلى سياسات؟
كلا النموذجين يحمل شيئًا من النور…
لكن النور وحده لا يكفي، إن لم يتحوّل إلى دفء يَبلغ فقراء الخيام، ومظاليم الأزقة، وبسطاء الحقول.
⸻
هوامش مرجعية
[1] جون رولز، نظرية في العدالة، مطبعة جامعة هارفارد، 1971
الترجمة العربية: نظرية في العدالة، ترجمة وتقديم ليلى الطويل، دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2011.




