
العدالة بين العقل والنص: مقاربة عربية لكتاب جون رولز
2025-06-26
إمارة هرر بين السلطنة والمدفع: قراءة استراتيجية شاملة
2025-07-25تحليل صادر عن مركز المدى للدراسات الفكرية والاستراتيجية – يونيو 2025
في تقرير لافت حمل عنوان “فرع قوي وغامض لتنظيم القاعدة ينشط في غرب أفريقيا”، سلّطت صحيفة واشنطن بوست الضوء على تمدد “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” (JNIM) كواحدة من أكثر الجماعات المسلحة نفوذًا في الساحل الإفريقي، وسط فراغ استراتيجي خلّفه تراجع القوى الغربية وانسحاب القوات الأميركية والفرنسية. لكن ما يميّز التقرير أنه لا يكتفي بسرد الوقائع، بل يشير إلى مشهد جديد يُعاد تشكّله، حيث نشهد صعودًا جهاديًا تقوده القاعدة، لا داعش، مدعومًا بسياقات محلية، ومُغذّى من فشل الدول وهشاشة التنمية.
تلفت الصحيفة إلى أن الجماعة، التي نشأت من تحالف بين أنصار الدين والمرابطين وعدد من الفصائل المحلية، أصبحت تسيطر على مساحات واسعة في الساحل وتمتد جنوبًا نحو الدول الساحلية. هذا التمدد يتم في جغرافيا منهكة أمنيًا، وقابلة للاختراق بفعل الهشاشة السياسية، فضلًا عن سهولة التجنيد القبلي، خاصة في أوساط الفلانّة. في ظل هذا الواقع، تتحول منطقة الساحل إلى مركز ثقل جهادي جديد، حيث تعيد القاعدة بناء نفوذها بشكل أكثر مرونة، معتمدةً على التغلغل المجتمعي، والعنف الانتقائي، والتحالفات المحلية، بعيدًا عن المواجهات المباشرة أو الشعارات الكبرى.
التقرير يولي اهتمامًا خاصًا بمصادر تمويل الجماعة، والتي تشمل فرض الضرائب على المجتمعات، والسيطرة على مناجم الذهب، والانخراط في التجارة غير المشروعة من ماشية ومخدرات، إضافة إلى الاختطاف مقابل فدية. هذا النمط يُعيدنا إلى مفهوم “الاقتصاد الجهادي”، الذي تتداخل فيه الأيديولوجيا مع منطق السوق والسيطرة، حيث تصبح العقيدة أداة للنفوذ المالي والتنظيمي ضمن نمط يجمع بين العنف والربح والسلطة.
غير أن انسحاب القوى الغربية من المنطقة لا يمكن قراءته فقط كقصور استراتيجي، بل قد يكون شكلًا من إعادة تموضع مدروس، يهدف إلى تهيئة بيئة فوضوية تُبرر لاحقًا أشكالًا جديدة من التدخل: سواء عبر الحلفاء المحليين، أو من خلال شركات أمنية خاصة. هذه الديناميكية سبق أن تجلّت في تجارب أفغانستان والعراق وسوريا، حيث تم استثمار الفراغ الأمني كذريعة لإعادة بناء النفوذ الدولي عبر أدوات أكثر مرونة وربحية.
في المقابل، تبرز قوى دولية أخرى بدأت تملأ هذا الفراغ، مثل روسيا – من خلال مجموعات أمنية خاصة – وتركيا، التي توفّق بين الحضور الدبلوماسي والتقني، وبين أدوار إنسانية وتعليمية في المنطقة. الحضور التركي يبدو أكثر تعقيدًا، نظرًا لكون أنقرة عضوًا في الناتو من جهة، وذات روابط ثقافية ودينية مع شعوب الساحل من جهة أخرى، ما يمنحها هامش مناورة لا يتوفر لقوى أخرى. إلى جانب ذلك، تشهد المنطقة تصاعدًا ملحوظًا في تجارة السلاح النوعي، وعلى رأسها الطائرات المسيّرة، التي باتت تُستخدم من قبل جيوش نظامية وميليشيات غير رسمية على حد سواء، وهو ما غيّر قواعد الاشتباك وفتح الباب لتدخلات عن بُعد بلا كلفة بشرية مباشرة. تركيا تُعد من أبرز مورّدي هذا السلاح، ما يمنحها أدوات نفوذ تتجاوز الوساطة التقليدية، لكنها في الوقت نفسه تثير مخاوف من تسليح بيئات هشة قد تنزلق إلى سباقات تسلّح تُفاقم الفوضى بدلًا من أن تُنتج استقرارًا.
وصف التقرير جماعة JNIM بأنها “فرع قوي وغامض”، رغم أنها مصنّفة رسميًا كتنظيم إرهابي من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، ولها قيادة معلنة وبنية تنظيمية معروفة. الغموض الذي يُشار إليه لا يتعلق بالمعلومات، بل بتناقض الرؤية الغربية حيال كيفية التعامل معها: بين تحذير متصاعد من خطورتها، وتقارير تُقلل من شأنها، وتراخي واضح في المواجهة المباشرة، وكأن الجماعة تُترك عمدًا لتبقى ورقة ضغط في موازين إقليمية متقلبة. هذا الاستخدام الرمادي للجماعة يُحيل إلى نمط مألوف من توظيف الفوضى كأداة لإعادة تشكيل التوازنات.
من المثير أيضًا أن الموجة الجديدة من الاهتمام الإعلامي بالجماعة لا تأتي من فراغ. فوفق نمط صناعة السرديات في الغرب، تبدأ الدورة من منصات البحث والتحليل الأمني، قبل أن تُنقل إلى الصحافة الموجهة، ثم تُصبح مادة للرأي العام، تبرر قرارات سياسية أو عسكرية لاحقة. من هذا المنظور، فإن تقرير واشنطن بوست لا يبدو معزولًا عن هذا المسار، بل قد يكون مؤشرًا مبكرًا على اقتراب تدخل جديد – مباشر أو غير مباشر – في الساحل، خاصة في ظل اشتداد الصراع على النفوذ بين أطراف دولية متزاحمة. هذا يستدعي من الفاعلين العرب، خاصة في شمال إفريقيا، أن يمتلكوا روايتهم الاستراتيجية الخاصة، لا أن يظلوا أسرى ردود أفعال متأخرة.
الساحل الإفريقي يتحوّل اليوم إلى مختبر جيوسياسي مفتوح. السلطة تنهار، الحدود تتآكل، والجماعات المسلحة تتحول إلى بدائل سلطوية، لا مجرد كيانات خارجة عن القانون. ما يجري لا يُمكن فصله عن تحولات كبرى تطال مفهوم الدولة، وجدوى الأيديولوجيا، وأدوات السيطرة الدولية التقليدية. ووسط هذا المشهد، يبدو JNIM مجرّد رأس جبل جليدي في منظومة أوسع من الفوضى المنظمة.
السؤال الجوهري الذي يجب أن يُطرح: هل ما يجري يعني شيئًا للدول العربية، أم سيكتفون بموقع المتفرّج على مسرح يتقاطع فيه البعد الثقافي والديمغرافي والأمني؟ بل الأهم: أين أصوات المفكرين، والمراكز البحثية، وصناع القرار العرب؟ لماذا يُنتظر وقوع الأزمات كي يبدأ التفاعل؟ خاصة أن المنطقة المستهدفة ذات غالبية مسلمة، وتواجه تهديدًا مزدوجًا: من الجماعات المسلحة، ومن تحولها إلى ساحة صراع دولي متشابك.
انطلاقًا من ذلك، تصبح الحاجة إلى فعل استباقي مسألة أمن قومي عربي، وليست مجرد شفقة إنسانية أو تضامن عابر. ما يمكن فعله يتلخّص في ست توصيات رئيسية:
أولًا، إطلاق مبادرات بحثية عربية مستقلة لفهم تحولات الساحل من منظور غير خاضع للسرديات الغربية.
ثانيًا، بناء شراكات تحليلية وميدانية مع مراكز دراسات أفريقية لفهم السياقات المحلية.
ثالثًا، رفع مستوى التنسيق الاستخباري العربي–الأفريقي لمراقبة مسارات التسلّح.
رابعًا، تفعيل أدوات القوة الناعمة العربية في مناطق الفراغ.
خامسًا، إطلاق إنذار دبلوماسي عبر الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي حول تهديد تهميش الساحل للأمن الإقليمي.
سادسًا، استشراف سيناريوهات التدخل المستقبلي من قبل شركات أمنية أو قوى أجنبية، ووضع بدائل متوازنة تحفظ الاستقرار دون الوقوع في فخ الاصطفافات.
رابط التقرير الأصلي: واشنطن بوست – 8 يونيو 2025




