
القاعدة تعود من بوابة الساحل: قراءة في تقرير واشنطن بوست عن تمدد “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” (JNIM)
2025-07-09
قراءة تحليلية في كتاب “الأمير” لنيكولا مكيافيلي وأثره في سياسات اليوم
2025-07-25تحليل استراتيجي لتجربة هرر: من جدلية الكيان والتحالف إلى بقاء الهوية بعد السقوط
ليست هذه الورقة سردًا تاريخيًا تقليديًا يعيد إنتاج الوقائع كما وردت في كتب المؤرخين، بل هي محاولة تحليلية تستقرئ تجربة إمارة هرر بوصفها مختبرًا سياسيًا وروحيًا فريدًا في قلب القرن الإفريقي. نحن لا نفتّش في التاريخ من أجل الماضي ذاته، بل نفكك سردياته لفهم أعمق لسؤال الدولة، والتحالف، والهوية في سياقات الهشاشة والتنازع. إن إعادة قراءة تجربة هرر ليست حنينًا، بل بحث عن دروس استراتيجية قابلة للاشتقاق في الحاضر والمستقبل، خاصة في عالم لا تزال فيه خرائط القوة والسيادة تُعاد تشكيلها على وقع التوازنات الثقافية والسياسية
في قلب شرق إفريقيا، وعلى تخوم مرتفعات إثيوبيا، قامت إمارة هرر ككيان مستقل فريد، لم تَنحصر في كونه مجرد مدينة محصّنة بأسوار، بل مثّلت دولة–مدينة رائدة في التاريخ الإسلامي الإفريقي، مع نموذج فريد من الاستقلال السياسي والثقافي بين القرن السابع عشر ونهاياته.
تأسست الإمارة عام 1647 على يد الأمير علي بن داود، بعد انفصال هرر عن سلطنة عدل، وظلت قائمة حتى 1887، على الرغم من مساحتها المحدودة ووسط محيط مضطرب سياسيًا واقتصاديًا. اعتمدت الإمارة على ثلاثة دعائم لتثبيت كينونتها: رسم خريطة أمامية في التجارة البرية، ربطت بين البحر الأحمر وأعالي الهضبة؛ وتنمية هوية لغوية خاصة (الهررية) مكنت من إنتاج فقه محلي مدوّن؛ وتأسيس شبكة صوفية زاد من شرعية الحركة المجتمعية والدينية.
قبل نشأة الإمارة رسميًا، كانت المدينة مركزًا هامًا لحملة أحمد بن إبراهيم الغازي، المعروف بـ”أحمد جُرّان”، الذي انطلق من أطراف هرر عام 1529، مدعومًا من العثمانيين بشكل غير مباشر. وُجِّهت الحملة ضد الدولة الحبشية الأرثوذكسية، وحققت انتصارات مؤثرة قبل أن تُهزم في معركة واينا داغا عام 1543 بعد تدخل عسكري برتغالي حاسم. كانت تلك اللحظة نهايةً لحلم توسّعي إسلامي طموح، ونقطة بداية لتحولات استراتيجية في موقع هرر ودورها في المنطقة.
في العقود اللاحقة، ظلت الإمارة تحاول تحقيق توازن بين الاستقلال الذاتي والحفاظ على علاقات خارجية متزنة. لم تكن هرر معزولة عن محيطها الإقليمي، لكنها أدركت مبكرًا أن التحالفات الخارجية سلاح ذو حدّين: إما أن تضمن عمقًا استراتيجيًا يُعزّز الاستقلال، أو تتحوّل إلى بوابات للاختراق والسيطرة. تجربتها مع قوتين إسلاميتين كبريين — العثمانيين والمصريين — كشفت هشاشة الاعتماد على الخارج في غياب بنية داخلية قوية. فرغم وحدة العقيدة، فضّلت الدولة العثمانية نمط “الدعم الرمزي” دون تدخل مباشر، واحتفظت بعلاقة معنوية دون تغطية عسكرية فعلية. أما مصر، فدخلت المدينة عام 1875 بقوات الخديوي إسماعيل، لكنها أخفقت في استيعاب الثقافة المحلية، وفرضت أنظمة إدارية مركزية غير ملائمة، وانتهت بتجربة فاشلة انسحبت على إثرها عام 1884.
أما البرتغاليون، فكانوا خصمًا مباشرًا للمشروع السياسي–الديني الذي مثّلته هرر، إذ تدخلوا عسكريًا في القرن السادس عشر لدعم الدولة الحبشية الأرثوذكسية، وساهموا بفعالية في هزيمة أحمد جُرّان عام 1543. مثّل تدخلهم جزءًا من مشروع صليبي عالمي لإجهاض أي نهوض إسلامي في الهضبة، وأسس لتحالف مسيحي–حبشي ضد الوجود الإسلامي في المنطقة¹.
مع انسحاب المصريين، وجد الأمير عبد الله بن علي نفسه في مواجهة مكشوفة أمام تصاعد القوة الحبشية بقيادة منليك الثاني. وفي عام 1887، سقطت هرر بعد معركة شيلينكو، في هزيمة لم تكن فقط عسكرية، بل تعبيرًا عن فشل الكيان في إعادة بناء قواه الداخلية، وفقدانه لأي دعم خارجي فعّال. ولأول مرة منذ أكثر من قرنين، أُلحقت المدينة بالدولة الحبشية الإمبراطورية، ودُمجت قسرًا ضمن مشروع الدولة المركزية.
ورغم زوال الإمارة سياسيًا، لم تُمحَ هويتها. فقد حافظ المجتمع الهرري على لغته، وزواياه الصوفية، ومدارسه الدينية، بل ورفض الذوبان الكامل داخل الدولة المركزية. ومع نهاية القرن العشرين، ومع اعتماد إثيوبيا الفيدرالية الإثنية عام 1991، حصل الهرريون على اعتراف قانوني بثقافتهم، واستعادوا جانبًا من فاعليتهم كمجتمع مميز².
لقد ساهمت الزوايا الصوفية والمؤسسات الدينية في الحفاظ على التماسك المجتمعي في المدينة، واستمرار الذاكرة الجماعية في مواجهة محاولات الطمس. كما لعبت اللغة الهررية دورًا محوريًا في استدامة التميّز الثقافي، وشهدت المدينة في العقود الأخيرة انتعاشًا للأنشطة الثقافية، شملت الشعر والموسيقى والفلكلور، مما عزز من استمرارية الروح الهررية في الزمن الإثيوبي الحديث.
وعليه، لا تختزل تجربة إمارة هرر في لحظة نشوء أو انهيار، بل في جدلية أعمق بين الكينونة والهامش، وبين الجغرافيا والروح. لقد مثلت هرر نموذجًا لدولة–مدينة صوفية–تجارية، اختارت أن تصوغ سيادتها من رحم اللغة، والفقه المحلي، والتماسك الاجتماعي، بدلًا من أدوات المركزية أو التوسع الجغرافي.
لكنها سقطت لا بفعل الغزو وحده، بل بسبب غياب العمق الاستراتيجي، وانعدام التحالفات المتوازنة، وضعف البنية المؤسسية. ورغم تلك النهاية، فإن الأهم هو ما تلا السقوط: استمرار الهوية، وتجدد المعنى، وصمود الذاكرة. لقد تحولت من كيان سياسي إلى رمز، ومن إمارة إلى ذاكرة متماسكة داخل دولة لم تنجح في محوها.
في الختام، تجربة إمارة هرر لا تختزل فقط في لحظة نشوء سياسي أو سقوط عسكري، بل في جدلية أعمق بين الكينونة والهامش، بين الجغرافيا والروح. لقد مثّلت هرر نموذجًا لدولة–مدينة صوفية–تجارية، اختارت أن تصوغ سيادتها من رحم اللغة، والفقه المحلي، والتماسك الاجتماعي، بدلًا من أدوات المركزية العسكرية أو التوسع الجغرافي.
لكن هرر سقطت لا بفعل الغزو وحده، بل بسبب غياب العمق الاستراتيجي، والافتقار إلى تحالفات متوازنة، وبنية مؤسسية مرنة. كانت ترى في العثمانيين سندًا روحيًا، وفي المصريين ملاذًا إداريًا، لكنها لم تجد في كليهما مشروعًا يستوعب خصوصيتها. ومع دخول القوى الإمبريالية المتمثلة في الحبشة والبرتغاليين، وجدت نفسها محاصَرة من كل الجهات.
ومع ذلك، فإن أهم ما في سردية هرر هو ما تلا السقوط: مقاومة صامتة بلغة وهوية ومؤسسات دينية. فبينما انتهت الإمارة ككيان سياسي، استمرت كرمز، وتحولت من دولة إلى “ذاكرة متماسكة”، وبرزت في العصر الحديث كمجتمع قادر على تأطير هويته داخل النظام الفيدرالي الإثيوبي، لا كضحية، بل كفاعل ثقافي وروحي.
من هنا، يمكن القول إن إمارة هرر تقدم لنا نموذجًا بديلًا لفهم “الدولة” في السياقات الإسلامية الإفريقية: دولة لم تكن ساحة صراع بين السيف والمنبر فحسب، بل مختبرًا لصياغة هوية متوازنة بين المحلي والعابر.
والدرس الباقي: في عالم تتقاطع فيه الأطماع والتحالفات والانتماءات، لا يكفي أن تكون على حق لتصمد، بل يجب أن تكون مستعدًا، مؤسسيًا وروحيًا وثقافيًا، لتحمي حقك من النسيان.
الهوامش والمراجع:
- Ulrich Braukämper, “Islamic Principalities in Southeast Ethiopia between the 13th and 19th Centuries,” Journal of Ethiopian Studies, vol. 17, no. 1, 1984.
https://www.jstor.org/stable/41965809
2. Building a City of Peace through Intercommunal Association, Manchester University.
https://www.researchgate.net/publication/342167105_Songs_and_Identity_in_Harar




