
إمارة هرر بين السلطنة والمدفع: قراءة استراتيجية شاملة
2025-07-25الواقعية السياسية بين التنظير والتجسيد: كيف تُمارس المكيافيلية بلا أن تُقرأ؟
صادر عن مركز المدى للدراسات الفكرية والاستراتيجية
في مطلع القرن السادس عشر، وتحديدًا عام 1513، كتب نيكولا مكيافيلي عمله الأشهر “الأمير”1، في فترة مضطربة سياسياً شهدت انهيار الجمهورية الفلورنسية وعودة آل مديتشي إلى السلطة. وقد أُبعد مكيافيلي عن العمل السياسي، فسعى من خلال هذا الكتاب إلى استعادة موقعه بالتقرب إلى الأمير الجديد. لم يُنشر الكتاب في حياته، بل صدر لأول مرة عام 1532، بعد وفاته بخمس سنوات. ما كتبه لم يكن مجرد نص في الحكم، بل كان تعبيرًا صارخًا عن تحوّل الرؤية السياسية في أوروبا من الأخلاق المسيحية إلى الواقعية الحديثة، ومن الدولة المقدسة إلى الدولة كأداة للسلطة.
في عالم مضطرب تتداخل فيه السياسة مع المصالح، وتذوب فيه الحدود بين المبدئي والوظيفي، يبقى كتاب الأمير أحد أكثر النصوص الفكرية إثارة للجدل منذ خمسة قرون. لم يكن كتابًا في السياسة فقط، بل مانيفستو مبكرًا لعقلانية صادمة تُقصي الأخلاق وتُقدّس النتيجة. هذا المقال لا يقرأ الأمير كتاريخ، بل كمرآةٍ تعكس حاضرًا ممتدًا. إذ نسعى هنا إلى تفكيك السردية المكيافيلية لا من أجل نبذها أو تمجيدها، بل لفهم حضورها الحديث في سياسات اليوم: من غرف القرار إلى ساحات الإعلام، ومن خطاب الدول إلى ممارسات الجماعات المسلحة.
يقوم الكتاب على افتراض مركزي: أن العالم لا يُحكم بالمبادئ، بل بالوسائل. “إذا كان لا بد للأمير أن يختار بين أن يُهاب أو أن يُحب، فالأفضل أن يُهاب.” هذه العبارة تلخص رؤية مكيافيلي: الحكم فن البقاء، والسياسة حقل مفتوح للمناورة، والغاية وحدها تُقيّم الوسيلة. لم يُخفِ مكيافيلي احتقاره للمثاليات. لم يكن يهتم إن كانت أفعال الأمير عادلة أو ظالمة، بقدر ما كان مشغولًا بفاعليتها. فالأكاذيب، الخداع، التنكر، حتى القتل، يمكن أن تُبرر ما دامت تؤدي إلى استقرار الدولة أو حماية الكرسي. وربما يكون السؤال الأكبر الذي طرحه مكيافيلي ضمنيًا هو: هل يمكن أن يكون الأمير أخلاقيًا ويظل في الحكم؟ جوابه كان واضحًا: الأخلاق جميلة، لكن لا يُعوَّل عليها في عالم تتصارع فيه الذئاب. ورغم قسوته، كان صادقًا في فضح نفاق عصره. فالحكام – كما قال – يدّعون الفضيلة، لكنهم لا يملكون ترف ممارستها دائمًا.
في السياسة الحديثة، لا تحتاج إلى قراءة مكيافيلي لتكون مكيافيليًا. كثير من الحركات – وخصوصًا الجماعات المسلحة ذات الطابع الديني أو الثوري – تستخدم مبادئه عمليًا دون وعي نظري بها. فالخداع بات تكتيكًا مشروعًا في خطاب هذه الجماعات: تُبرر الهدنة كـ”خدعة مرحلية” لا تعكس نية سلم، يُفصل الخطاب الداخلي عن الخطاب الخارجي، ويُعاد تأويل النصوص لخدمة غايات سلطوية، وتُمنَح الوعود للتحالفات وتُنكَر باسم الضرورة، تمامًا كما أفتى مكيافيلي بأن الوعد يُحترم إذا لم تتغير المصلحة. هذه العقلية تبرر لنفسها كل وسيلة بذريعة “التمكين”، وتخلط بين النية والممارسة، حتى أصبحت المصداقية مجرد ديكور تعبوي. لا يقتصر الأمر على الخطاب، بل يمتد إلى السلوك السياسي والتنظيمي، من خلال استخدام التناقضات الداخلية للمجتمعات كأداة للنفوذ. فبعض الجماعات تستثمر الصراعات الأهلية والطائفية، ليس فقط للبقاء، بل لتعظيم شرعيتها؛ كما تفعل بعض القوى داخل سوريا ولبنان، حين توظّف هشاشة الدولة لصناعة واقع بديل تفرضه بقوة السلاح أو الإعلام.
وفي زمن السوشيال ميديا، لم يعد الأمير بحاجة إلى قلعة تحميه، بل إلى “سردية مقنعة” وصورة رقمية مُحكمة. السيطرة على الفضاء الإعلامي – خصوصًا الرقمي – تحوّلت إلى امتداد معاصر للنصيحة المكيافيلية: “تجنّب الكراهية… بالظاهر لا بالجوهر.” فالأنظمة السياسية، وحتى التنظيمات غير الرسمية، تستخدم منصات التواصل لبناء سرديات تحاكي الجماهير، وتُضخِّم الأعداء، وتُحاكي عواطف الهوية، من أجل تبرير قرارات قد لا تصمد تحت الضوء الأخلاقي. فـ”الأمير الحديث” لا يُشهر سيفًا، بل يُطلق حملة إلكترونية. لا يُسقط خصمه في الميدان، بل يُشكّك في نواياه على فيسبوك وتويتر. هي مكيافيلية حديثة بلغة البيانات والخوارزميات، تشحن العاطفة وتُبقي الحقيقة خلف الستار.
ومع ذلك، فإن مكيافيلي – رغم واقعيته – وقع في فخ لا يقل خطرًا: الحياد الأخلاقي الصارخ الذي يُحوّل الإنسان إلى أداة. فـ”الأمير” – بحسب الكتاب – ليس عليه أن يكون فاضلًا، بل أن “يبدو كذلك”. هذه الثنائية بين الجوهر والمظهر تقود في نهاية المطاف إلى شرعنة الانفصال بين الإنسان ومبادئه، بل إلى تقنين الكذب كأداة حكم. ومن هنا، يُصبح الخط الفاصل بين الحُكم والفُجور رفيعًا جدًا، وتُصبح الجرائم مبررة باسم الاستقرار.
لا خلاف أن مكيافيلي قدم توصيفًا دقيقًا لآليات الحكم، لكنه لم يقدم بوصلة أخلاقية. هو يكتب للعقل، لا للضمير. يُشخّص العيوب، لكنه لا يسعى لإصلاحها. وبينما تصلح نصائحه لفهم أنماط النفوذ، إلا أنها لا تبني أفقًا إنسانيًا عادلًا، بل تكرّس شريعة الغاب بشكل أنيق. الخطورة هنا ليست في الأفكار فقط، بل في تحوّل هذا الكتاب إلى مرجع ضمني لكثير من السياسيين – شرقًا وغربًا – الذين يمارسون “الواقعية” كذريعة للتجاوز.
ربما لا يمكننا إنكار دور مكيافيلي في تطوير علم السياسة، لكننا لا نستطيع أن نغفل الكلفة الأخلاقية لفلسفته. الأمير ليس كتاب شر، لكنه أيضًا ليس كتاب حق. هو مرآة لواقع مظلم، يجب أن تُقرأ لكي لا نعيد إنتاجه. السياسة العاقلة لا تُبنى فقط على الواقعية، بل على الموازنة بين القوة والحق، بين الممكن والمطلوب. وما لم نُعد التفكير في أخلاقيات السلطة، سنبقى في دوامة مكيافيلية لا تنتهي: حيث تُبرّر الوسيلة، وتُختطف الحقيقة، ويُربَك الضمير.
الهوامش:
¹ نيكولا مكيافيلي، الأمير، ترجمة مؤسسة هنداوي:
https://www.hindawi.org/books/58591507/
إصدار مركز المدى للدراسات الفكرية والاستراتيجية




