
صراع الشرعيات: حين تتعدد المرجعيات وتسقط الدولة
2025-05-23
الحياد المعرفي ليس حيادًا أخلاقيًا
2025-05-25بقلم: منصة المدى للدراسات الفكرية والاستراتيجية
منذ ظهرت حركة طالبان في منتصف التسعينات، ارتبط اسمها بمشهد إسلامي جهادي يتخذ من أفغانستان منصةًا لصراع طويل مع الاحتلال والتدخلات الدولية. غير أن السمة الأبرز التي ميزت طالبان عن غيرها من التنظيمات الجهادية، كانت تمسّكها بما يمكن وصفه بـ” الجهاد الوطني” مقابل “الجهاد العالمي” الذي تبنته تنظيمات مثل القاعدة وداعش. هذه الخصوصية ازدادت بروزًا مع عودة طالبان إلى الحكم عام 2021، إذ برزت مؤشرات على تحوّل نوعي في استراتيجياتها وتحالفاتها، ولا سيما تجاه خصم تقليدي مثل الهند. [1]
التحوّل هذا لا يعكس فقط متطلبات سياسية داخلية أو ضغوط خارجية، بل ينتمي إلى ما يمكن تسميته بمرحلة “ما بعد الجهاد”، التي تشهدها حركات الإسلام السياسي المسلح منذ مطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، حيث باتت الدولة تسبق الثورة، والمصلحة تسبق الاصطفاف العقائدي.
من الثورة إلى الدولة: تحوّلات الجهاد السياسي
خاض التيار الجهادي، منذ نهاية الثمانينات، تحولات في البنية والخطاب. فبينما قادت القاعدة نمطًا صداميًا أمميًا يهاجم “العدو البعيد”، حافظت طالبان على مسار أكثر انكفاءً، يركّز على طرد الاحتلال وتطبيق الشريعة داخل أفغانستان، دون تبنٍّ صريح لأطروحة “الخلافة العالمية”.
هذا يختلف عن الجهاد التحرري الكلاسيكي الذي قادته حركات مثل الإخوان في فلسطين والجزائر، أو حتى حركات مقاومة الاحتلال في إفريقيا. فطالبان منذ نشأتها مثّلت تيارًا محليًا متجذرًا في القبلية والبنية الدينية التقليدية، ما منحها خصوصية سياسية مختلفة عن الجهاد العابر للأمم. [2]
باكستان: الحليف الذي يتحوّل إلى عبء
لطالما ارتبطت طالبان بدعم مباشر من الاستخبارات الباكستانية، التي ساهمت في تأسيسها وتوجيهها، باعتبارها أداة لضمان نفوذ إسلام آباد في أفغانستان. دعمتها عسكريًا وماليًا، وكانت من أوائل من اعترف بحكمها بعد سيطرتها على كابول عام 1996.
لكن هذه العلاقة تغيرت بعد 2001. فبينما احتضنت باكستان قيادات الحركة في المنفى، انبثقت على أراضيها حركة متمردة حملت الاسم ذاته – “تحريك طالبان باكستان” – وهاجمت الدولة الباكستانية من الداخل. هذا التباين أدخل العلاقة في نفق من التوتر.
الذروة كانت في 2010، حين اعتقلت باكستان أحد أهم مؤسسي طالبان، الملا عبد الغني برادر، بعد تجاوزه التنسيق المسبق مع الاستخبارات في بعض اتصالاته الدولية. ومع عودة طالبان إلى الحكم عام 2021، لم تعد العلاقة قائمة على التبعية، بل على الندية والشك المتبادل. [3]
طالبان رفضت الاعتراف بخط “ديوراند” الحدودي، كما امتنعت عن تسليم قادة “تحريك طالبان باكستان”، وبدأت تقترب – براغماتيًا – من خصوم باكستان التاريخيين، وفي مقدمتهم الهند.
طالبان والهند: من العداء العقائدي إلى البراغماتية السياسية
العلاقة بين طالبان والهند اتسمت تقليديًا بالعداء، إذ دعمت نيودلهي “التحالف الشمالي”، ورفضت الاعتراف بالحركة، بل اعتبرتها امتدادًا للنفوذ الباكستاني وخطرًا على أمنها الإقليمي.
لكن بعد سقوط طالبان في 2001، استثمرت الهند بكثافة في أفغانستان، وضخت أكثر من 3 مليارات دولار في مشاريع البنية التحتية والتعليم، وبنت نفوذًا ناعمًا واسعًا. طالبان نظرت إلى هذا الحضور بريبة، بوصفه امتدادًا للنفوذ المعادي للمشروع الإسلامي السني المحافظ.
مع اقتراب الانسحاب الأميركي (2020–2021)، بدأت الهند تعيد تقييم موقفها. ولم يكن هذا التحول نابعًا من تبدل أيديولوجي، بل من منطق استراتيجي. فالهند التي فقدت أدوات نفوذها في كابول، باتت تخشى فراغًا تملأه باكستان أو الصين. فخففت خطابها، وفتحت قنوات اتصال غير رسمية.
طالبان، بدورها، سعت لطمأنة نيودلهي بأنها لا تنوي تحويل أفغانستان إلى ساحة عداء. بعد أغسطس 2021، أغلقت الهند سفارتها مؤقتًا، لكنها أعادت بعثتها الفنية منتصف 2022، وشاركت لاحقًا في لقاءات غير معلنة بطهران والدوحة. بل ووصفتها طالبان لاحقًا بـ” الشريك الإقليمي المهم”.
استراتيجية طالبان الجديدة: بين السيادة والبراغماتية
تحولات طالبان لا تعني أنها تخلّت عن جذورها العقائدية، لكنها أعادت تأطيرها داخل مشروع “الدولة الوطنية”. وهذا انعكس في أربع مسارات:
- الحياد في كشمير:
رغم أنها كانت قضية جهادية محورية لعقود، أعلنت طالبان الحياد التام، وهو قرار يعكس إدراكًا لحساسية الموقع الجغرافي وتوازن القوى.
- الانفتاح الاقتصادي:
سعت طالبان إلى فك الارتباط التجاري الحصري مع باكستان، عبر تعزيز العلاقات مع إيران والهند، ولا سيما من خلال مشروع ميناء تشابهار. [4]
- رسائل ضمنية لباكستان:
أن طالبان ليست صنيعة أحد، بل سلطة قائمة بقرارها. وكل تقارب مع الهند هو جزء من سياسة التوازن لا الانقلاب على الجوار.
- خطاب سيادي منضبط:
رغم تمسكها بالشريعة، تقدم طالبان اليوم خطابًا وطنيًا أكثر من كونه ثوريًا، في مسعى لإعادة إنتاج شرعيتها.
المشهد الدولي والتحولات الأوسع
هذا التقارب بين طالبان والهند جزء من مشهد إقليمي ودولي متغير. فمع تراجع النفوذ الأميركي، وبروز روسيا والصين، تسعى الهند لإعادة تموضعها. وطالبان تستثمر هذا التوازن لتقوية شرعيتها، دون الارتهان لمحور بعينه.
منطق ما بعد الجهاد: التحوّل الكبير
تشهد الحركات الجهادية تراجعًا في الخطاب الأممي. ففكرة الأمة الكبرى تحل مكانها الدولة القومية، وفكرة الشهادة تحل مكانها فكرة الاعتراف السياسي. طالبان ليست وحدها، فحماس والنهضة وحتى حزب الله مروا بتحولات مماثلة في خطابهم. [5]
لكن ما يميز طالبان أنها فعلت ذلك من موقع سلطة حقيقية، تسيطر على دولة كاملة، وتعيد هندسة علاقاتها من موقع القوة لا الضعف.
خاتمة: هل تنجح التجربة الطالبانية؟
طالبان اليوم ليست جماعة مقاتلة، بل حكومة ذات خطاب ديني وسياسي. انفتاحها على الهند ليس خيانة لماضيها، بل ترجمة لواقعها الجديد. يبقى التحدي في قدرتها على الحفاظ على تماسكها الداخلي وتلبية حاجات مجتمعها، دون أن تفقد صورتها في عيون أنصارها.
الهند خصم الأمس العقائدي بات شريكًا براغماتيًا. وهذا وحده كافٍ لنقول: الجهاد السياسي دخل مرحلة جديدة، لا تُحكم بالولاء والبراء، بل بالسيادة والمصلحة.
قائمة الهوامش
[1] Bruce Hoffman, Inside Terrorism, Columbia University Press, 2006.
[2] Vahid Brown, “The Taliban’s War of Words”, CTC Sentinel, 2011.
[3] Ahmed Rashid, Descent into Chaos, Penguin Books, 2008.
[4] “India’s Strategic Stakes in Chabahar Port”, The Diplomat, May 2022.
[5] Olivier Roy, The Failure of Political Islam, Harvard University Press, 1994.



