السودان بين البندقية والمنبر: كيف تشكّلت علاقة الجيش بتيار الإسلام السياسي… وكيف تكسّرت؟
2025-05-30بين الانكفاء الإيراني والطموح السعودي: هل تعيد واشنطن فعلاً ضبط الشرق الأوسط؟ (قراءة متوازنة في التحولات الجيوسياسية بعد 2023)
2025-06-01بقلم: مركز المدى للدراسات الفكرية والاستراتيجية
مدخل تأملي: الإصلاح من الداخل بين الواقعية السياسية واستراتيجيات الاحتواء
تتردد هذه العبارة كثيرًا على ألسنة دعاة التغيير الواقعي: “نُصلح النظام من داخله”.
لكن هل تصلح الدولة من داخلها فعلًا؟ وهل تسمح الأنظمة السلطوية – أو حتى الديمقراطيات المنحرفة – بأن تتغير عبر أدواتها؟
إن فكرة “الإصلاح من الداخل” تُطرح عادةً حين تتراجع الثورات، أو تفشل محاولات التغيير الجذري، فيلجأ الفاعلون إلى خيار يبدو أقل تكلفة وأكثر عقلانية. لكنها، في كثير من السياقات، تتحوّل إلى آلية احتواء ناعمة لا تغيير فعلي.
الإصلاح من الداخل: حلم الممكن أم فخّ الترويض؟
في الدول التي تفتقر إلى مؤسسات رقابية فعالة، أو تعاني من تغوّل السلطة التنفيذية، يصبح “الإصلاح من الداخل” شعارًا أكثر منه مسارًا.
فالذين يدخلون مؤسسات النظام باسم الإصلاح، غالبًا ما يُستنزفون في تفاصيل البيروقراطية، أو يُخضعون لاشتراطات الاستمرار، أو يُستخدمون كواجهة تجميلية توحي بانفتاح مزعوم.
كم من نائب إصلاحي انتهى كجزء من آلة الفساد؟
وكم من حزب دخل في “المعادلة” لينتهي كعنصر تزييني بلا أثر؟
إصلاح تدريجي أم تسوية؟ أين الفارق؟
لا خلاف أن التغيير الصدامي في بعض الدول قد يؤدي إلى انهيارات غير محمودة، لكن في المقابل، فإن الإصلاح التدريجي يفترض وجود بيئة قابلة للتدرج أصلًا:
قضاء مستقل نسبيًا،
إعلام يمكنه المحاسبة،
مجتمع مدني قادر على الضغط،
ومساحة توازن تسمح بالتفاوض.
لكن حين تُغلق كل هذه المسارات، ويُصبح النظام هو الحَكم والخصم والمرجع، فإن من يدعو إلى “الإصلاح من الداخل” قد يُشارك – ولو بحسن نية – في ترسيخ الوضع القائم، لا تغييره.
التاريخ لا يخدعنا: شواهد وتجارب
في العالم العربي، جُرِّبت هذه الفكرة مرارًا: شارك الإسلاميون والليبراليون، والحراكيون والقوميون، في البرلمانات وفي الحكومات، باسم “الإصلاح من الداخل”.
لكن النتيجة – في أغلب الحالات – كانت واحدة:
امتصاص الحراك، تبهيت الخطاب، وتحويل الفاعلين إلى جزء من النظام لا إلى بديل له.
في المقابل، كانت هناك تجارب نادرة نجح فيها الإصلاح التدريجي (كما في المغرب أو تونس لفترة)، لكنها كانت مشروطة بحد أدنى من الإرادة السياسية، وتوازن داخلي لا يحتكر فيه طرف واحد كل أوراق اللعبة.
ما البديل؟ التغيير خارج الصندوق
ربما آن الأوان لطرح السؤال من زاوية أخرى:
ليس فقط هل يمكن الإصلاح من الداخل، بل: هل ما نحتاجه هو إصلاح أم إعادة تأسيس؟
حين تكون الدولة قائمة على شبكة مصالح لا على قواعد دستورية، وعندما تكون السيادة موزعة بين القبيلة والطائفة والمليشيا، فإن إصلاحها من الداخل يشبه محاولة إعادة بناء سفينة وهي تغرق.
الحل لا يكون بالمواجهة العنيفة، ولا بالاندماج الساذج، بل بـ:
بناء رواية جديدة،
مساحات وعي ومقاومة ناعمة،
إعادة تعريف المواطن، والسلطة، والعقد الاجتماعي.
ختامًا
“الإصلاح من الداخل” ليس جريمة ولا سذاجة بالضرورة، لكنه أيضًا ليس وصفة سحرية تُعالج بها أزمات الدولة العميقة أو فساد البنى السلطوية. فهو خيار تكتيكي، قد ينجح في سياقات محددة حين يكون النظام قابلًا للتأثر بالضغط المدني أو حين تتوفر نوافذ دستورية حقيقية تسمح بتعديل المسار من داخل المؤسسات. لكنه يفشل – في الغالب – حين يكون الخلل بنيويًا لا عرضيًا، وحين تُصمَّم مؤسسات الدولة ذاتها لإعادة إنتاج السلطة لا لمساءلتها.
التغيير الحقيقي لا ينبع من التكيّف مع شروط اللعبة، بل من تجاوزها حين تُصبح عائقًا أمام المصلحة العامة. لا يأتي من موقع الوظيفة فقط، بل من وضوح الرؤية، وشجاعة الموقف، واستقلالية الصوت، وربط السياسة بالأخلاق لا بالمناورة.
إن الإصلاح المطلوب ليس ترقيعًا على هوامش النظام، بل إعادة تعريف للممكن… انطلاقًا من الوعي، ومرورًا بالفعل، وصولًا إلى إعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس أكثر عدلًا وشفافية.
خلاصة تحليلية
تُظهر تجارب عديدة أن خيار “الإصلاح من الداخل” يظل سلاحًا ذا حدّين. فمن جهة، قد يوفر فرصة لتقليل كلفة التغيير وتفادي الصدام المباشر، خاصة في الأنظمة التي تُبدي قابلية نسبية للتعديل التدريجي. ومن جهة أخرى، يُستخدم هذا الخيار في كثير من الأحيان كآلية لإعادة تدوير النخب، وامتصاص الزخم الجماهيري، وتأبيد الوضع القائم عبر منح وهم المشاركة دون تمكين حقيقي.
المعيار الحاسم في جدوى هذا الخيار ليس النوايا، بل طبيعة النظام ذاته: مدى انفتاحه البنيوي، ووجود مؤسسات مستقلة، وقدرته على التفاعل مع مطالب الإصلاح دون استيعابها شكليًا.
كما أن الفاعلين الإصلاحيين مطالبون دائمًا بالحفاظ على استقلاليتهم، وربط جهودهم الجزئية بأفق تغييري أوسع، يُبقي على جذوة الوعي، ويمنع تحوّلهم إلى مجرد أدوات لتجميل النظام
الإصلاح من الداخل قد يكون مسارًا واقعيًا… لكنه لا ينبغي أن يتحوّل إلى غاية بحد ذاته، بل يظل وسيلة ضمن إستراتيجية أوسع، تُبقي على أفق التغيير الشامل مفتوحًا، عبر التراكم الواعي والضغط السلمي المستمر
المراجع: بعض المراجع لمن أراد التوسع.
أنطونيو غرامشي، دفاتر السجن، دار الفارابي، بيروت.
يتناول مفهوم الهيمنة وإعادة إنتاج النخبة للنظام من داخله، وهو مرجع أساسي لفهم محدودية الإصلاح التدريجي في الأنظمة المغلقة.
حنة أرندت، في السياسة والثورة، ترجمة بدر الرفاعي، المنظمة العربية للترجمة.
تشرح الفروق بين الإصلاح والتحول السياسي، وتحذر من وهم التغيير داخل البنية السلطوية.
عزمي بشارة، الثورة والقابلية للثورة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012.
تحليل نقدي للتجارب الإصلاحية في السياق العربي بعد الثورات، مع تقييم دقيق لشروط التغيير البنيوي.
ياسين الحاج صالح، الخلاصات الممكنة، منشورات المتوسط، 2017.
يتناول مأزق الدولة العربية ومحدودية الخيارات أمام الفاعلين السياسيين داخل النظام.