
حين خذلت السياسة الميدان: قراءة سياسية في كتاب «المجاهدون في معارك فلسطين» للواء محمد طارق الإفريقي
2025-06-11
الرمادي ليس دائمًا حياديًا
2025-06-21بقلم: منصة المدى للدراسات الفكرية والاستراتيجية
منذ سنوات طويلة، حافظت إيران على موقعها كعدو دائم في أدبيات السياسة الغربية والخليجية، كأنها الخطر الثابت في معادلة متقلبة. لكن حين نعود إلى طريقة تشكّل هذا الدور، لا تبدو إيران قوة خارقة بقدر ما تبدو ماردًا تم تصنيعه وتضخيمه، ثم بدأ تدريجيًا يُعاد إلى حجمه. فالسؤال لم يعد: كيف نواجه إيران؟ بل: هل انتهى دورها الوظيفي كمارد ضروري لضبط التوازنات؟
خلال العقدين الماضيين، غذّت القوى الكبرى حضور إيران في المنطقة، عن قصد أو نتيجة فراغ خلقته بنفسها. بعد غزو العراق عام 2003، لم تكتفِ واشنطن بإسقاط النظام، بل حلت الجيش، وفككت مؤسسات الدولة، تاركة المجال مفتوحًا لتمدد الحرس الثوري الإيراني عبر الميليشيات الشيعية، في مشهدٍ أعاد تشكيل العراق كحقل نفوذ شبه مباشر لطهران. وفي سوريا، استغلت إيران تردد الولايات المتحدة وتحفظ بعض الدول العربية وصمت إسرائيل، لتدخل تحت لافتة “حماية المقامات”، ثم سرعان ما تحولت إلى الطرف الفاعل الميداني الأول، دون أن تواجه ردعًا حقيقيًا إلا بعد سنوات من التجذّر.
صعود المارد الإيراني لم يكن مفاجئًا، بل يمكن تتبعه منذ ثورة 1979، حين أطاح الخميني بالشاه ورفع شعار “الثورة الإسلامية”. لم تكن تلك ثورة محلية فحسب، بل مشروعًا أمميًا يتجاوز حدود إيران إلى الخليج وبلاد الشام والعالم الإسلامي. حمل الخميني فكرة تصدير الثورة، وأسّس لبنية دولة تتجاوز المؤسسات التقليدية، وتحكمها منظومة عقائدية–أمنية، يتصدرها “الولي الفقيه” وذراعه التنفيذي: الحرس الثوري. ومنذ تلك اللحظة، لم تعد إيران مجرّد دولة، بل أصبحت مشروعًا يستثمر في الفوضى ويغذيه صمت الآخرين.
ومع تنامي دور إيران الخارجي، تعقدت علاقاتها مع الفاعلين “غير الرسميين” في المنطقة. فعلاقتها بتنظيم القاعدة لطالما كانت ضبابية، فبينما تعلن عداوتها، تُظهر تقارير استخباراتية أميركية أنها استضافت بعض قيادات التنظيم، ربما كورقة تفاوض، وربما لتقييد حركتهم تحت أعينها. العلاقة لم تكن تحالفًا، بل شكلًا من الاحتجاز السياسي المزدوج: لا دعم… ولا قطيعة. أما مع تنظيم داعش، فالمشهد يبدو معكوسًا. العداء هنا حقيقي، لكنه أيضًا مفيد. فبمجرد تمدد داعش، خصوصًا في الموصل والرقة، قدمت إيران نفسها كقوة قادرة على صد الفوضى، وتدخلت عسكريًا، ودعمت ميليشيات، واستفادت من التحول في المزاج الدولي. داعش، بشكل أو بآخر، منح إيران فرصة ذهبية لشرعنة تدخلها، والظهور أمام الغرب كـ”قوة استقرار”.
ولا يمكن تجاهل علاقتها المعقدة مع تيارات الإسلام السياسي. فعلى الرغم من التباعد المذهبي، أقامت إيران تحالفات مرحلية مع الإخوان المسلمين وحركة حماس، ودعمت شخصيات وأحزابًا في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وحتى في إفريقيا. لم تكن هذه العلاقات دائمًا مستقرة، لكنها أثبتت أن طهران تُجيد التقاط الفرص في مناطق السيولة الأيديولوجية، حتى لو اصطدمت لاحقًا بتناقضات عميقة في التوجه والرؤية.
ولفهم طبيعة الدور الوظيفي الذي شغلته إيران طوال العقود الماضية، تجدر المقارنة مع تجربة سابقة لماردٍ آخر: صدام حسين.
ففي ثمانينيات القرن الماضي، خاض صدام حربًا طويلة ضد إيران نفسها، بدعم غربي وعربي وُصف حينها بأنه “الدرع العربي” في مواجهة التمدد الشيعي. لكن ما إن أنهى تلك الوظيفة، وارتكب اجتياح الكويت، حتى تبدّل موقعه بالكامل: صُنّف عدوًا، وجرى ضرب العراق ثم إسقاط نظامه.
الفرق أن إيران لم تصطدم مباشرة بالغرب كما فعل صدام، بل تحركت ضمن الهوامش المسموح بها، وتوغلت في الفراغات دون أن تُهدد البنية الدولية صراحة. لكنها، مثله، تجاهلت حقيقة أن الوظيفة لا تدوم إلى الأبد، وأن تجاوز الدور المرسوم يؤدي غالبًا إلى الاستنزاف… ثم الإقصاء
وفي قلب مشروع التمدد الإيراني، حضرت أداة الطائفية بشكل واضح. استثمرت إيران في الهويات الشيعية لكسب حواضن شعبية وسياسية، كما في العراق ولبنان واليمن، وقدّمت نفسها كمدافع عن “المظلومين”، لكنها في الوقت نفسه ساهمت في خلق انقسام عمودي داخل المجتمعات، ما ولّد ردود فعل عنيفة، وكرّس حالة استقطاب دائم. وبعد سنوات، لم تعد هذه الأداة فعالة كما كانت، بل تحولت إلى عبء حتى داخل البيت الشيعي نفسه. ومع كل ضربة تتلقاها طهران اليوم، تطرح أسئلة حول ما إذا كانت هذه الأدوات قد وصلت إلى حدودها القصوى، وانتهت صلاحيتها السياسية.
وتزامنًا مع اهتزاز بعض أدوات التمدد السياسي والمذهبي، جاءت الضربات العسكرية لتكشف عن مرحلة جديدة من الضغط الميداني المباشر، إذ تطوّرت طبيعة الضربات الأمريكية والإسرائيلية ضد إيران ووكلائها بشكل ملحوظ منذ أواخر 2023، وانتقلت من استهدافات تكتيكية موضعية إلى ضربات أعمق تمسّ البنية المركزية لنفوذ طهران الإقليمي والعسكري. فقد اتجهت الضربات الأمريكية نحو تحييد القدرات التكنولوجية والصاروخية المتقدمة، خصوصًا في العراق وسوريا، مع التركيز على شبكات النقل، ومواقع تطوير المسيّرات، ووحدات الدعم اللوجستي التي تسهّل العمليات العابرة للحدود. في المقابل، وسّعت إسرائيل نطاق عملياتها لتشمل غرف العمليات المشتركة، والمراكز السيادية التابعة للحرس الثوري، وحتى بعض البنى القاعدية التي يشتبه أنها تدخل في منظومات التخصيب النووي أو نقل السلاح الدقيق. لم تعد هذه الضربات مجرد أدوات احتواء أو رسائل محدودة، بل تحوّلت إلى آلية تقييد استراتيجي شامل، تهدف إلى شل قدرة إيران على توسيع نفوذها أو ترجمة قدراتها العسكرية إلى تأثير ميداني دائم.
وفي ذروة هذا التصعيد، مثّلت الضربة الإسرائيلية الواسعة في يونيو 2025 نقطة انعطاف كبرى في نمط الاستهداف، إذ لم تعد تقتصر على الوكلاء أو خطوط الإمداد في سوريا ولبنان، بل امتدت إلى العمق الإيراني ذاته، مستهدفة البنية النووية والعسكرية في مراكز الثقل. شملت العملية أكثر من مئتي موقع، من بينها منشآت لتخصيب اليورانيوم في نطنز وفوردو، ومقار قيادة ومراكز لوجستية، وأسفرت عن مقتل شخصيات عسكرية ونووية بارزة، مثل اللواء حسين سلامي، ومحمد باقري، وأمير علي حاجي زاده، بالإضافة إلى تصفية خبراء نوويين كبار مثل فريدون عباسي. ورغم أن إيران حاولت الرد عبر هجوم مكثف بأكثر من مئة طائرة مسيّرة، إلا أن الرد جوبه بمظلة دفاع جوي إقليمية فعالة، أُسقطت خلالها غالبية المسيّرات قبل وصولها إلى أهدافها. هذا التحوّل في طبيعة الأهداف وطريقة المعالجة يشير بوضوح إلى أن إسرائيل لم تعد تتعامل مع إيران بوصفها خصمًا يمكن احتواؤه، بل مشروعًا يجب تقييد مفاصله الرئيسية، سواء على صعيد القدرات النووية أو النفوذ الإقليمي، في محاولة واضحة لإعادة المارد إلى حدود الدور المرسوم له
ربما الأهم من تراجع الدور الإيراني هو السؤال: من يملأ الفراغ؟ من الواضح أن المنطقة تشهد إعادة توزيع للأدوار: تركيا تعود بثقل جيوسياسي في القوقاز وسوريا، السعودية تتبنى استراتيجية النفوذ الناعم والدبلوماسية، وإسرائيل تندمج تدريجيًا في التحالفات الأمنية الخليجية. وهذا يعكس نظامًا إقليميًا جديدًا أقل تسامحًا مع الفوضى، وأكثر ميلًا إلى ترتيب التوازنات بوسائل وظيفية قابلة للضبط. وفي هذا النظام الجديد، لم تعد إيران ملائمة كما كانت في زمن الصدامات الكبرى.
في النهاية، إيران التي تُضرب اليوم ليست هي إيران التي صُنعت بالأمس. المارد تم تصنيعه، ووُظّف، وتُرك يتغوّل، ثم حين تغيّر السياق، تغيّرت القواعد. إيران تُضرب لا لتُمحى، بل لتُعاد إلى حدودها، ويُعاد ضبط دورها. فالمارد حين يكبر أكثر مما ينبغي، لا يُقتل… بل يُقصّ جناحاه، حتى يتذكّر حجمه الأصلي.