
اليد التي زرعت القنبلة: كيف صنع الغرب خصمه النووي ثم أعلن الحرب عليه؟
2025-06-23
انفصام المعايير في الخطاب: قراءة في التناقض بين الخطاب الدعوي والممارسة الشخصية
2025-06-24تحليل سياسي صادر عن مركز المدى للدراسات الفكرية والاستراتيجية – يونيو 2025
منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، حرصت قطر على اتباع نهج براغماتي مرن في سياستها الخارجية، يجمع بين الانفتاح على طهران والحفاظ على تحالفها المتين مع الولايات المتحدة. هذا التوازن منح الدوحة مساحة حركة فريدة في منطقة تعصف بها الاستقطابات. فبينما انخرطت معظم دول الخليج في خصومة مفتوحة مع إيران، أبقت قطر خيوط التواصل ممدودة، مستفيدة من موقعها كفاعل دبلوماسي “محايد” قادر على التوسط، لا التورط.
لكن هذا النموذج الدبلوماسي الهجين وُضع على المحك في يونيو 2025، حين استهدفت إيران قاعدة العديد الجوية بصواريخ دقيقة، ردًا على مشاركة طائرات أميركية متمركزة هناك في تنفيذ ضربات طالت منشآت نووية وعسكرية إيرانية حساسة. الهجوم، الذي لم يُسفر عن خسائر بشرية كبيرة، لم يُوجَّه لقطر بوصفها عدوًا، بل كرسالة لإدارة بايدن السابقة والرئيس ترامب حاليًا، بأن استهداف الداخل الإيراني لن يمر دون رد. لكن الرسالة وصلت عبر الأراضي القطرية، وعلى حساب أمنها.
الضربة لم تكن مجرد اختراق أمني، بل لحظة كاشفة لانهيار افتراضات طويلة حول جدوى التوازن بين المتضادين. فالدوحة لم تكن تتوقع أن تضربها إيران، بالنظر إلى سنوات من التقارب السياسي والدعم الإيراني العلني لها إبان حصار 2017. ومع ذلك، فإن تلك العلاقة لم تشفع لها. إيران قررت أن تُرسل رسالتها من خلال قطر، وقطر من جهتها بدت عاجزة عن حماية نفسها أو تبرير ما جرى، لتجد نفسها في مرمى النيران دون أن تكون طرفًا مباشرًا في القرار أو الفعل.
هذا ما جعل الصدمة في الداخل القطري أعمق مما بدت في ظاهرها. فالشعب القطري، الذي اعتاد الأمان والبعد عن الصراعات، لم يدفع ثمن حياد دولته، بل ثمن دخولها في ملفات أكبر من حجمها، وتقديم أرضها منصة لتحالفات متضاربة. فرغم العلاقة مع إيران، لم تتردد طهران في التضحية بها، وقطر بدورها ضحّت بأمن مواطنيها ضمن حسابات سياسية معقّدة. وفي لحظة واحدة، وجد القطريون أنفسهم في قلب لعبة لم يُستشاروا فيها، ولا امتلكوا أدوات التأثير على مساراتها، ولا حتى حماية أنفسهم من تبعاتها.
وفيما اكتفت واشنطن بإدانة شكلية للهجوم، دون رد عملي، لم يصدر عن مجلس التعاون الخليجي موقف موحّد، وكأن قطر ليست جزءًا من منظومة الأمن الإقليمي. الأكثر إثارةً للاستفهام كان صمت بعض الحركات السياسية المقرّبة من الدوحة، وعلى رأسها حركة “حماس”، التي لم تُصدر أي بيان يدين الضربة، رغم أن قطر تُعد أحد أبرز داعميها سياسيًا وماليًا. هذا الصمت لم يُقرأ فقط كتعبير عن الحرج، بل كإشارة إلى اختلال في أولويات تلك الحركات، التي بدت حريصة على الحفاظ على علاقتها بطهران أكثر من وقوفها مع حليف طالما مدّ لها يده.
الحدث كشف أيضًا عن نهاية مرحلة “الحياد الإيجابي” الذي تغنّت به قطر لعقود. فعندما تتحول أراضي الدولة إلى ساحة لرسائل عسكرية، فلا معنى للحياد، ولا فاعلية له، مهما كانت درجة المرونة السياسية. الأسئلة التي طُرحت في أروقة الحكم والشارع معًا تجاوزت حدود الحادث: هل لا تزال قطر قادرة على الاستمرار في هذا النموذج السياسي؟ وهل ما زال بمقدورها لعب دور الوسيط في عالم تزداد فيه حدة الاستقطاب وانهيار الوساطات؟
ولم تكد التوترات تهدأ حتى تدخلت واشنطن لفرض وقف إطلاق نار مؤقت بين الطرفين، في محاولة لاحتواء التصعيد. لكن ما لبثت أن ظهرت مؤشرات لعدم الاستقرار، وسط أجواء إقليمية مشحونة تجعل من عودة التصعيد احتمالًا دائم الحضور.
في النهاية، أثبتت الضربة أن التوازن لا يُبنى على العلاقات وحدها، بل على حسابات القوة والردع والمواقف الصلبة. وأن الدولة الصغيرة، مهما بلغت مرونتها، إن لم تبنِ قدرة ذاتية على الحماية، أو تحصّن حيادها بشبكة دعم حقيقية، فستبقى دائمًا مهددة بأن تكون أول من يدفع ثمن اشتباك الآخرين.
ووسط هذا كله، تبرز حقيقة لا يمكن تجاوزها: من حق الشعوب، وفي مقدّمتها الشعب القطري، ألا تكون مجرد متلقّ سلبي لخيارات كبرى تمسّ حياته وأمنه واستقراره. السيادة لا تكتمل من دون صوت شعبي وازن، يملك الحق في مساءلة القرار، لا دفع ثمنه فقط. فالدولة، مهما بلغت حكمتها، ليست فوق إرادة الشعب، بل تستمد مشروعيتها منه، ويجب أن تظل سياساتها الخارجية انعكاسًا لحماية مواطنيها أولًا لا المغامرة بهم في حسابات الآخرين.