
في قلب العاصفة: الضربة الإيرانية لقطر وتداعيات الخروج عن قواعد الاشتباك
2025-06-24
العدالة بين العقل والنص: مقاربة عربية لكتاب جون رولز
2025-06-26تحليل صادر عن مركز المدى للدراسات الفكرية والاستراتيجية – يونيو 2025
مقدمة تمهيدية: لماذا نكتب؟
في مركز المدى للدراسات الفكرية والاستراتيجية، لا نرصد الظواهر الأخلاقية أو السلوكية من باب الفضول أو التهجم، بل انطلاقًا من اهتمام جوهري بتحولات الخطاب العام، وأثره على الثقة الاجتماعية والوعي الجمعي.
السلوك الشخصي حين يصدر عن أفراد عاديين قد يُعدّ مسألة خاصة، لكنه حين يصدر عن شخصيات مرجعية تتبنى خطابًا دينيًا أو قيميًا، ويُلاحَظ فيه تناقض بين ما يُعلَن وما يُمارَس، فإن لهذا التناقض انعكاسات تتجاوز الفرد إلى بنية الوعي العام، وإلى صدقية المنظومة التي يتحدث باسمها.
نكتب لأننا معنيون بتحليل أنماط التأثير التي يُنتجها هذا الخطاب المتناقض: كيف يرى الناس هذا السلوك؟ وكيف يؤثر في ثقتهم بالمبدأ؟ وهل يفتح هذا التناقض بابًا لرفض أوسع لا يميز بين الدين كمرجعية والسلوك كتمثيل بشري؟
نكتب أيضًا لأننا نؤمن أن نقد الخطاب من الداخل، وقراءته في ضوء معايير الاتساق الأخلاقي والفكري، هو أحد أشكال الإصلاح الأهدأ والأكثر فاعلية.
من هنا، تأتي هذه المقالة التحليلية لا لإدانة شخص أو حالة، بل لفتح نقاش مسؤول حول ظاهرة آخذة في التكرار، وتستحق أن تُفهم في عمقها النفسي والسلوكي والفكري، بعيدًا عن التبسيط أو التجييش.
تُعد قضية التناقض بين المبدأ والممارسة من أبرز التحديات التي تواجه الخطاب الديني المعاصر، خصوصًا حينما يتعلق الأمر بقضايا شديدة الحساسية في الوجدان الاجتماعي، مثل صورة المرأة وحدود التعامل معها في المجال العام. فبعض الدعاة، الذين يبنون خطابهم الوعظي والإرشادي على تشديد واضح تجاه مسألة الاختلاط أو الخلوة أو حتى التصوير المشترك، تجدهم في الواقع لا يترددون في الظهور في مشهد أو مناسبة تضم امرأة، وأحيانًا في صورة فردية تجمعه بها، سواء أكانت محجبة أم لا، دون أن يظهر عليه الحرج أو التردد الذي يشي بأن ما يقوم به يمثل استثناءً اضطراريًا.
اللافت في هذه الحالة ليس فقط التناقض، بل ما يمكن وصفه بـ”الازدواجية الموجَّهة”؛ حيث يظهر الداعية متشددًا تجاه ما يُمارَس على المستوى العام أو من قبل غيره، لكنه أكثر تساهلًا حين يكون هو المعني بالفعل ذاته. هذا التناقض لا يقف عند حدود الفعل الفردي، بل يمتد إلى الأثر المجتمعي الذي يتركه، وإلى الرسائل الرمزية التي يُنتجها أمام جمهور واسع يتفاعل، يراقب، ويقارن.
من زاوية تحليل نفسي–اجتماعي، تمثل هذه الظاهرة حالة من الانفصال بين الخطاب الأخلاقي المُعلن وبين المنظومة الشعورية الداخلية، إذ يتعامل بعض الدعاة مع أنفسهم باعتبارهم في “وضع استثنائي”، يتيح لهم ممارسة ما لا يسمحون به لغيرهم، غالبًا بحجة أنهم “أعرف بالنوايا” أو “أقدر على ضبط النفس”. وهو ما يُفضي إلى نوع من التبرير الأخلاقي الداخلي الذي يخفف من التوتر بين القول والفعل، لكنه لا يصمد أمام النظر المجتمعي، ولا أمام مشاعر المتأثرين بذلك التناقض.
وهنا تبرز نقطة أخلاقية جوهرية، تتعلق بموقع الشخص الآخر في المعادلة، خصوصًا من له صلة مباشرة بالمرأة المعنية، كزوجها أو أخيها أو والدها. فكيف يُعقل أن يمنع الداعية أهله – بصرامة – من مثل هذا التصرف، ثم لا يرى غضاضة في أن يُمارَس هذا الفعل نفسه مع امرأة ليست من أهله؟ وهل يُرضيه أن يرى صورة مماثلة لأخته أو زوجته مع داعية آخر؟ أم أن الموقف سيختلف جذريًا بمجرد تبدّل الأدوار؟
لكن من الضروري هنا الإشارة إلى نقطة بالغة الأهمية: لسنا، بالضرورة، متفقين على صحة جميع الضوابط التي يضعها بعض الدعاة في قضايا المرأة والعلاقة بين الجنسين. فهذه المسائل، رغم حساسيتها، محلّ اجتهاد واسع وخلاف معتبر بين المدارس الفقهية والمجتمعات الإسلامية المختلفة.
وليس من النادر أن يُبنى الموقف المتشدد في هذه القضايا على خلفية اجتماعية محلية أو أعراف سائدة، ثم يُقدَّم لاحقًا في ثوب ديني صارم، دون تمييز كافٍ بين ما هو حكم شرعي وما هو عرف اجتماعي ملبَّس بالدين.
وياليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل كثيرًا ما يُلاحظ أن الداعية لا يطبّق هذه الضوابط بحذافيرها على نفسه، أو على من حوله من المقرّبين، فيمارس استثناءً صامتًا لنفسه تحت مبررات دينية انتقائية.
فما يُحرَّم على الآخرين، يُباح له بمسوّغات متأخرة، أو بتأويلات تُستحضر عند الحاجة، وكأن الخطاب موجّه لغيره لا يشمله.
وهنا تتعمّق الأزمة: فالمشكلة لم تعد في التشدد أو التيسير، بل في انفصام المعايير، حين يتحول الدين من مبدأ جامع إلى أداة انتقائية تبرر ازدواجية السلوك باسم “الضرورة” أو “الخصوصية”.
هذا التناقض لا يقتصر على الحياة الخاصة أو الظهور الإعلامي، بل يتسرّب أيضًا إلى البيئة اليومية في محيط العمل، حيث يُلاحظ أحيانًا تهاون في الالتزام بالضوابط المعلنة حين يتعلق الأمر بعلاقات مهنية محددة أو ظروف خاصة.
فقد يُسمح لنفسه – في إطار العمل – بجلسة منفردة مع إحدى الموظفات، أو يلتقط صورة معها في سياق مناسبة ما، دون اكتراث لما قد يُفهم من ذلك، أو لما يترتب عليه من انطباعات تتعارض تمامًا مع الخطاب المتشدد الذي يُلزم به غيره.
الأشدّ دلالة أن هذا التصرف – في أغلب الحالات – لا يقبل به الداعية نفسه لو كان الطرف الآخر زوجته أو أخته أو قريبته، بل ربما يُبدي رفضًا قاطعًا بلغة شديدة، لو وجدها في صورة مماثلة مع شخص آخر، حتى لو كانت الصورة في سياق عمل أو مناسبة عامة.
فما الذي يجعل ما يُعتبر “غير لائق” إذا مسّ الدائرة القريبة، يُصبح “مبررًا” و”مفهومًا” إذا صدر عنه تجاه دائرة الآخرين؟
هذا التساؤل لا يتصل فقط بالمعايير الأخلاقية، بل يمتد إلى المشاعر الإنسانية البسيطة: ماذا لو رأى أحد الرجال صورة لأخته أو زوجته مع داعية ما؟ ألن يشعر بالاستياء ذاته الذي يشعر به الداعية حين يُوضَع في الموقع المعاكس؟
إن هذا الاستخدام الانتقائي للضوابط في فضاء العمل يكشف عن معيار مزدوج صامت، لا يُصرّح به، لكنه يُمارَس، ويعبّر في عمقه عن خلل في تصور الالتزام، لا عن مجرد خطأ فردي عابر.
في الفقه الإسلامي، توجد استدلالات كثيرة تدعو إلى الاتساق بين القول والعمل، وتحذر من التناقض الذي يُفقد الخطاب أثره، كقوله تعالى: “لِمَ تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”.
لكن التحدي ليس في غياب النصوص، بل في توفر الإرادة لتطبيقها بإنصاف واتزان على النفس قبل الغير.
إن المجتمع اليوم، في ظل توسع أدوات التواصل والانكشاف السريع، لم يعد يتسامح مع هذا النوع من التناقضات. وتكرار هذه المشاهد يُفضي إلى إضعاف ثقة الجمهور في الخطاب الديني، ويفتح بابًا واسعًا للسخرية أو الرفض، لا لكون الدين ناقصًا، بل لأن من يرفعه لا يُجيده سلوكًا.
والحاجة اليوم ليست إلى تشديد أكبر في الأحكام، بل إلى قدر أعمق من الصدق الذاتي والقدرة على التراجع والنقد الداخلي. فأن تكون متّسقًا لا يعني ألا تخطئ، بل أن تكون شجاعًا بما يكفي لتقرّ بما لا يليق، وأن تطالب لنفسك بما تطالب به غيرك.
صادر عن:
قسم الدراسات الفكرية والتحولات الثقافية
مركز المدى للدراسات الفكرية والاستراتيجي




