
طالبان والهند: من العداء إلى البراغماتية – قراءة في تحولات الجهاد السياسي
2025-05-24بقلم: منصة المدى للدراسات الفكرية والاستراتيجية
في كثير من البلدان العربية، لا تكمن الأزمة في غياب الشرعية، بل في فائضها. إذ تتعدد المرجعيات التي تدّعي الأحقية في تمثيل الشعب، فيحتدم الصراع لا على من يبني الدولة، بل على من يحتكر الحديث باسمها. وفي هذا التنازع، لا تكون النتيجة توازنًا مثمرًا، بل تفككًا في الكيان، وتآكلًا في المؤسسات.
اليمن، ليبيا، العراق، والسودان، نماذج حيّة لهذا التنازع المؤلم. هناك حيث تتصارع شرعيات بمسميات مختلفة، دينية وثورية وجهوية وعشائرية، وانتخابية، كل منها تملك سرديتها الخاصة، لكنها لا تملك سوى القليل من أدوات الدولة. فالحاكم لا يُسائل وفق الدستور، بل وفق شرعية “الثورة” أو “الجهاد” أو “العشيرة”، وتُدار المؤسسات لا بقوانين واضحة، بل بتفاهمات ولاءات ومعادلات مؤقتة.
في هذه السياقات، تصبح الدولة ساحة حرب مفتوحة بين مشاريع متضادة، لا يربطها جامع وطني، بل تحركها شعارات كبرى لا تثمر إلا في زيادة الانقسام. شرعية المقاومة تُستخدم لتبرير الاستبداد، وشرعية الانتخاب تُحتكر لتأبيد السلطة، وشرعية الثورة تُستثمر لبناء سلطات موازية تُجهز على ما تبقى من هيبة الدولة.
هذا التنازع لا يضرب فقط فكرة الدولة الحديثة، بل يعمق الشروخ في الوعي الجمعي. فحين يرى المواطن أن “الشرعية” تُفصل على مقاس الغالب، وأن القانون لا يطبق إلا على الضعفاء، يفقد ثقته بالمنظومة كلها، ويستبدل مفهوم الوطن بـ” الملاذ”، والدولة بـ” الجهة الآمنة”.
وإذا كانت بعض القوى الإقليمية والدولية تتدخل في هذه الصراعات لإعادة التوازن، فإن تدخلها غالبًا ما يزيد المشهد تعقيدًا، حين تدعم شرعية على حساب أخرى، فتتوسع الهوة بين الفاعلين المحليين، ويغدو بناء الدولة أمرًا مؤجلًا إلى ما لا نهاية.
في النهاية، لا يمكن لبلد أن يستقر ما لم يُحسم سؤال الشرعية بطريقة وطنية عادلة وشاملة. فالشرعية ليست مجرد لحظة في التاريخ، ولا يقررها السلاح أو الشارع وحده، بل هي عملية تراكمية تؤسسها القوانين، وترعاها المؤسسات، وتُقرها إرادة الناس.
الصراع على الشرعية، حين لا يُعالج، يتحول إلى صراع على البقاء. وفي هذا الصراع، تسقط الدول، لا لأن الناس لا يريدونها، بل لأن من يتصدّر باسمها يُمعن في تمزيقها.